الطاهر بن جلون روائي وشاعر ومفكر مغربي يقيم في فرنسا ويكتب بلغتها عن قضايا العرب والمسلمين في بلدانهم وفي أوروبا، وفي رحلاتهم وهجراتهم المحفوفة بالموت والعنصرية والضياع. قبل ثلاثين سنة من اليوم، تُوج مبدع رواية “ليلة القدر” بجائزة غونكور الرفيعة، التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية، مثلما توج بجوائز أخريات، منها جائزة إيمباك الأدبية سنة 2000، وجائزة دبلن للآداب سنة 2004، وجائزة إيريك ماريا ريمارك للسلام سنة 2011… كما ترجمت أعماله إلى 47 لغة. بينما يبقى هذا الكاتب العربي المثير للجدل من أكثر كتاب الرأي متابعة من لدن القراء في الصحف الأوروبية، مثل “لوموند” و”لاريبوبليكا” و”لافانغوارديا”…
هنا في شاطئ أشقار بطنجة المغربية، تحت شمس غشت الحارقة… وقبل الوصول إلى مقر إقامة الطاهر بن جلون، الذي يتردد على المدينة في فصل الصيف، أصر كل شيء على أن يذكرنا بعوالم هذا الروائي العالمي. عشرات المهاجرين الأفارقة التحقوا بنا في سيارة الأجرة بعد فشل محاولة أخرى من محاولات الهجرة السرية نحو إسبانيا. ركب ثلاثة منهم إلى جانبنا، وهم يحكون بمرارة إحباط محاولتهم في هذا الصباح الطري. بينما خاطبنا أحدهم بحسرة كبيرة: الهجرة السرية مغامرة تعرض حياتنا للخطر. ولكن، هنا نحن نفشل حتى في الموت!”.
قلم التحرير
الجديد: وصلتُ للتو، رفقة مهاجرين أفارقة لم يتمكنوا من الهجرة نحو إسبانيا، فعادوا أدراجهم نحو طنجة. أما راديو الطاكسي، فكان ينقل خبر موافقة الرئيس الفرنسي على استقبال 50 مهاجرا من أصل 141 إفريقيا نزلوا في ميناء مالطة، في ما يعرف بكارثة “أكواريوس″، حيث رفضت إيطاليا استقبالهم، وتقاسمتهم دول فرنسا وإسبانيا والبرتغال ولوكسمبورغ وألمانيا. إلى متى ستظل أوروبا تتقاسم هؤلاء الأفارقة والعرب المهاجرين واللاجئين النازحين؟
الطاهر بن جلون: لا يكمن المشكل في دول الاستقبال وحدها، مثل فرنسا وغيرها، بل يكمن، أيضا، في تلك الدول التي ينطلق منها المهاجرون الأفارقة وسواهم، وهي الدول التي تكابد أوضاعا اقتصادية قاسية. صحيح أن ثمة دولا أفريقية تتوفر على إمكانيات مهمة، على غرار نيجيريا والغابون والجزائر، لكن كل هذه الدول لا تعبأ بمواطنيها، ولا تعتمد سياسة لضمان عمل وعيش كريم، كيما يقتنع هؤلاء بالاستقرار في بلدانهم، دون التفكير في مغامرة الهجرة نحو أوروبا، تلك المغامرة المحفوفة بالموت دائما، كما قلت في سؤالك، انطلاقا من الشهادة البليغة لذلك المهاجر الأفريقي.
أما بالنسبة إلى فرنسا، مثلا، وكما قال ميشيل روكار، رئيس الوزراء الفرنسي في عهد فرانسوا ميتران، فإنها “لا تستطيع استقبال كل مآسي العالم، ولكنها تتحمل مسؤولية تجاه هذه المأساة”. لذلك، وجب على فرنسا أن تساهم في مواجهة هذه الظاهرة بما أوتيت من إمكانيات وقدرات.
كثيرا ما اتهمت من قبل البعض بأنني كنت مساندا لنظام الحسن الثاني، وكانوا يزعمون يومها أنني مقرب من القصر. وهذا كله إنما كان كذبا وبهتانا كبيرا، بينما بقيت أتعالى عن هذه الاتهامات المغرضة والدنيئة
اليوم، ما عادت ظاهرة الهجرة تقتصر على الدول الأفريقية. فالحرب في سوريا، وقبلها الحرب في العراق، إلى جانب الحروب الأهلية في الدول الأفريقية، أرغمت الكثير من الناس على الهروب نحو أوروبا فرارا من الاعتقالات وجرائم الحرب التي لا تضع أوزارها أبدا.
في هذا السياق علينا أن نفرق بين المهاجر الذي يفر من بلده لظروف اقتصادية، حيث لا عمل ولا أمل في حياة كريمة، وبين اللاجئ الذي يهرب من دكتاتورية إجرامية قمعية، ومن حرب ضروس. لكن الأمور تشابهت علينا اليوم، وغدونا نلفي لاجئين سوريين وعراقيين إلى جانب مهاجرين أفارقة على متن الباخرة الواحدة، وقارب الموت نفسه. وحين تختلط الأمور إلى هذا الحد، فإنه من الصعب إيجاد حل للمأساة والفجيعة.
الجديد: في روايتك “رحيل” Partir، يتساءل أحد أبطال الرواية “ما سبب هذا الهوس بمغادرة المغرب؟ ما سبب هذه الفكرة؟ ما سبب إلحاحها؟”، فرغم أن أوروبا باتت تعيش أزمات اقتصادية ومالية منذ ما يزيد عن عشر سنوات، لا يزال المغاربة والعرب يحلمون بالهجرة إلى أوروبا. ما سبب هذا الحلم الذي كثيرا ما يتحول إلى كابوس على متن قوارب الموت، ويصير هروبا من الموت نحو الموت؟
الطاهر بن جلون: كان المغرب ولا يزال أول بلد يقاسي هذه الظاهرة بشكل يومي [يشير إلى البحر]. لأجل ذلك، على كل الدول المعنية بموجات الهجرة والنزوح أن تتحمل مسؤوليتها لوقف هذا النزيف. ولا بد من حل جذري ونهائي للظاهرة. ولي اليقين في أنه لا أحد يمكن أن يكون سعيدا في المهجر، مهما تكن المغريات.
اليوم لم تعد الأسباب التي تقف وراء ظاهرة الهجرة أسبابا اقتصادية فحسب، بل صارت ثمة أبعاد سياسية، خاصة مع تراجيديات اللاجئين النازحين من سوريا وباقي الدول العربية في عرض البحر المتوسط. وللولايات المتحدة الأميركية مسؤولية راسخة، ما دامت هي المسؤولة عن تخريب العراق، حين قامت بتدمير هذا البلد شعبا وحضارة وذاكرة، ووفرت الشروط الجهنمية لنمو الإرهاب وقيام ما يسمى “دولة إسلامية”، لم تكن إلا نتيجة للسياسة الأميركية الإجرامية في العراق في بداية الألفية الحالية. لذلك، ما زلت أطالب، من زمان، بضرورة محاكمة الرئيس الأميركي جورج بوش محاكمة جنائية عالمية، على غرار محاكمة الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش، لأنه أباد الشعب العراقي، بناء على أسباب مغرضة، واتهامات كاذبة، وادعاءات واهية، دون العودة إلى الأمم المتحدة وقراراتها.
الجديد: بعد نصف قرن على اعتقالك سنة 1966، إثر مظاهرة طلابية في الدار البيضاء، أصدرت مؤخرا محكيات بعنوان “العقاب” La punition. لماذا انتظرت كل هذا الوقت لتدون تجربتك السجنية، وإن كنت كتبت من قبل رواية في أدب السجون بعنوان “تلك العتمة الباهرة” Cette aveuglante absence de lumière عن سجن تازمامارت. وثمة فصل صريح في روايتك “الكاتب العمومي” عن تجربة الاعتقال؟ كيف استطعت الاحتفاظ بآلام تلك المرحلة وتفاصيل هذه التجربة إلى اليوم؟
الطاهر بن جلون: مبدئيا، لم تكن هنالك خطة لكي أحكي هذه الفترة العصية والتجربة الحدية من حياتي؛ مرحلة تعرضت فيها لعنف وتعسف وتعذيب، لأن الدولة كانت خائفة يومها من كل المطالب وكل الحركات الاحتجاجية. نتحدث هنا عما يعرف بسنوات الرصاص في المغرب. كنا نظمنا تظاهرات في مدينة الدار البيضاء احتجاجا على أوضاع التعليم في البلاد، فتعرضنا لعنف دموي، وتم اعتقالي إلى جانب مجموعة من الطلبة، بحكم انتمائنا إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وجرى اعتقالي بدعوى أنني العقل المدبر لتلك المظاهرات السلمية.
بالنسبة إلي شخصيا، كثيرا ما اتهمت من قبل البعض بأنني كنت مساندا لنظام الحسن الثاني، وكانوا يزعمون يومها أنني مقرب من القصر. وهذا كله إنما كان كذبا وبهتانا كبيرا، بينما بقيت أتعالى عن هذه الاتهامات المغرضة والدنيئة، ولم أرد أن أثبت لأحد أنني كنت مناضلا معارضا للنظام، لأنني أثق في نفسي ولا أزايد بأية تضحية من أجل بلدي. الآن، جاء الوقت لكي أحكي هذه القصة، لأنها قصة مهمة من تاريخ المغرب. ذلك لأن الجيوش الضباط الذين عذبونا في الثكنة العسكرية “هرمومو”، واعتقلونا هنالك، هم أنفسهم الضباط الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة على النظام المغربي سنة 1971، المعروف بانقلاب الصخيرات. لقد تعرضنا لمختلف أشكال التعذيب والإهانة والمس بالكرامة على أيدي هؤلاء، فقط لأننا كنا طلبة نطالب بتعميم التعليم على المغاربة، وننادي بالعيش الكريم. تصوروا معي لو نجح الانقلاب وحكم هؤلاء المغرب، يقينا كانوا سيقضون على البلاد بشكل نهائي، لأنهم كانوا عسكريين فاشستيين ومرتزقة.
الجديد: كذلك، أمكن القول إن رواية الطاهر بن جلون هي رواية الذاكرة. وأنت تشير إلى هذا في مقدمة روايتك “ليلة القدر” La Nuit Sacrée. وفي رواية “في البلد” au pays، وأعمال أخرى، حيث لا يحتاج الكاتب إلى خيال فقط، بل لا بد من ذاكرة قوية لكي يكتب؟
الطاهر بن جلون: نعم، لنقل إن الكتابة تحتاج إلى واقع وخيال معا. وإذا نحن حكينا الواقع من دون خيال فسيبدو كلاما بسيطا ومباشرا، عبارة عن تقرير بوليسي فقط. لكن، عندما تأخذ واقعا يوميا وتدمجه في لعبة الخيال يمكن أن تمس القارئ مباشرة وأن تثيره أكثر مما يثيره الواقع.
للرواية قدرة على معرفة روح الشعوب، وإذا أنت أردت أن تتعرف إلى روح المجتمع المصري ما عليك إلا أن تقرأ نجيب محفوظ، وإن أردت أن تقوم بزيارة إلى كولومبيا، أمكن لك أن تجعل من روايات غابرييل غارسيا ماركيز أفضل دليل سياحي. صحيح أن الكاتب شاهد على الواقع، غير أن خيال الكاتب هو الذي يمنح هذه الشهادة صدقها الإنساني وعمقها الفني. إن حياتنا محكومة بالنقص دائما، والخيال هو من يملأ تلك الفراغات. كما أن ذاكرتنا لا تسعفنا في استعادة كل شيء، فلا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل الزمن. كما أن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحيانا أمام عالم فوق واقعي، أو سوريالي، على الأصح.
لا بد من خيال لاسترجاع ما يضيع وينفلت منا بفعل الزمن. كما أن للخيال قدرة على تجاوز هذا الواقع الناقص، لنصير أحيانا أمام عالم فوق واقعي
ونحن المغاربة، مثلا، لنا خيال ثر، ونمتلك قدرة خارقة وفائقة على تأويل الأشياء. فإذا ما وقع حدث معين تجد كل واحد منا يقدم روايته الخاصة، ويضفي عليها مسحة من الغرائبية، ويضيف إلى الحدث تفاصيل كثيرة لا منتهى لها. وحين أقف في ساحة جامع الفنا بمراكش، مثلا، أصاب بالدهشة وأنا أنصت للحكواتيين وهم يسردون حكايات من ألف ليلة وليلة، فيضيفون إليها ما لا يخطر على بال أحد، ويختلقون حكايات جديدة لا وجود لها.
الجديد: بخصوص الذاكرة، فاس التي ولدت فيها حاضرة في الكثير من رواياتك، ثم طنجة، التي عشت فيها، قبل الوصول إلى فرنسا. في “الكاتب العمومي” و”حول أمي”، وروايات أخرى… يبدو أن هنالك أعمالا أدبية للطاهر بن جلون وغيره من كتاب العالم تجعلنا نقول بأن الرواية ما هي إلا اختراع اختلقه الكُتاب من أجل إيهامنا بأنهم لا يتحدثون عن سيرهم وتجاربهم الإنسانية ومدنهم وطفولتهم؟
الطاهر بن جلون: ومع ذلك، فإن الكاتب الذي لا يتحدث إلا عن نفسه هو كاتب فقير. ومن يكون هذا الكاتب الذي يحق له أن يحدثنا عن نفسه ويحكي لنا حكايته الشخصية! لنأخذ كاتبا مثل خوان غويتصولو، هذا المبدع الإسباني والإنساني الكبير الذي عاش بين المغاربة ودفن بينهم… فهو في روايته “المقبرة”، كما في روايات أخريات، لا يكتب عن نفسه قَدْرَ ما يكتب عن العالم الإسلامي الذي عاش فيه وأثر في حياته. لنقل إن الكاتب لا يحكي عن الحياة التي عاشها بقدر ما يحكي عن تأثره بهذه الحياة. من هنا، وجوابا على سؤالك المتعب [يضحك]، أمكن القول إن العالم الذي نعيش فيه يؤثر في ما نكتبه. ولو كنت أعيش في الصين أو اليابان لكنت تأثرت حتما بواقع الحال والأشياء هنالك.
صحيح أن الكاتب يستعير من حياته ومن الوقائع التي عاشها، والأحداث التي واجهها… سوى أنه لا يمكن أن يحكي حياته كما هي. لنأخذ كافكا على سبيل المثال، فروايات هذا الكاتب العظيم محض خيال، بل هي أعمال مفرطة في الخيال المجنح إن صح التعبير. لكننا حين نقرأ يومياته نجدها تتقاطع مع رواياته وسردياته التخييلية، المستمدة من اليأس ومن الإحباط الذي ظل يسكنه.
ولنستحضر محمود درويش في هذا المقام؛ هو شاعر عظيم، ليس لأنه فلسطيني، فتلك هويته. ولكن شعره تحدى هذه الهوية وتجاوزها. فلو أنه توقف عند حدود النكبة، وآلام القضية الفلسطينية لظل شاعرا محليا. لكنه صار كونيا، وواحدا من أهم شعراء القرن العشرين. ولا يمكن الخلط بين هويته كفلسطيني وبين قدرته الهائلة كشاعر. غير أنه لولا مأساة فلسطين لما كان محمود درويش شاعرا عظيما. وأتذكر هنا قولة جان جنيه “وراء كل كتابة جيدة ثمة مأساة كبرى”. والكاتب الذي يبدع في عالم مثالي وجميل لا يمكن أن يقدم لنا عملا جميلا. صحيح أنا لسنا مع البؤس، غير أن المعاناة ضرورية ليكون ثمة شاعر أو كاتب مهم.
وعن سؤالك، دائما، دعنا نقلْ: ليس الكاتب الحقيقي هو الذي يكتب عن الحياة، بل ذلك الذي تكتب الحياة بيده.
الجديد: في رواية “الاستئصال” L’ablation، تحكي حياة الآخرين، لتذكرنا بأنك إنما تقوم هنا بمهمة الكاتب العمومي، كما تشدد على ذلك في مطلع “ليلة القدر” وفي الرواية التي تحمل الاسم نفسه “الكاتب العمومي”. كاتب عمومي نعم، ولكن من غير أن تظل وفيا لهذه المهنة، إذ لا بد من خيال وجمال لكتابة حياة من لا يستطيعون الكتابة. هل مهمة المبدع والروائي، تحديدا، هي أن يكون كاتبا عموميا، بهذا المعنى الأدبي؟
الطاهر بن جلون: حين تتحدث عن رواية “الاستئصال” فإنك تستحضر معي عملا روائيا وإنسانيا أعتز به أيما اعتزاز؛ فهذه الرواية شهادة أدبية إنسانية حول سرطان البروستاتا، هذا المرض الذي يموت به أصحابه دون أن يستطيعوا الحديث عنه. ولعل هذا الصمت هو الذي يقتلهم أكثر مما يقتلهم السرطان نفسه؛ فلقد أصبح من الممكن علاج هذا المرض بكل سهولة، أحيانا، لكن الخوف من هذا المرض هو الذي يقضي على ضحاياه، ممن يلتزمون الصمت ولا يخبرون أحدا بآلامهم، بما في ذلك زوجاتهم وأولادهم.
وفي الوقت الذي تلتزم فيه الصحافة الصمت، هي الأخرى، تجاه هذا المرض العضال، وقلما نعثر على تذكير به في التلفزيون، جاء هذا الكتاب ليصبح رمزا لفضح هذا الصمت الشامل والمطبق تجاه المرض الفتاك. لا يغدو المريض هاهنا ضحية لمرضه، بل ضحية للقدر. وأنا ما زلت أعتبر الكتابة معركة ضد القدر؛ فالحياة ليست قدرا مكتوبا ومقدرا علينا، بل الحياة هي التي نكتبها ونخترعها يوميا. بهذا المعنى، تغدو الحياة معركة. الحياة يا صاحبي لا يمكن أن تكون مجرد نزهة، بل هي آلام وصراعات وحروب، مثلما هي لحظات فرح وسلام وأمن أيضا.
الجديد: خلال السنوات العشر الأخيرة، أصدرت ثلاثة كتب يمكن أن نسميها “الشروحات”، وهي “شرح العنصرية لابنتي”، و”الإسلام كما نشرحه لأبنائنا”، و”الإرهاب كما نشرحه لأبنائنا”. لنبدأ بكتاب “الإسلام كما نشرحه لأبنائنا”. والإسلام هذا هو الذي بات يلتبس بالإرهاب وهو ضحية النظرة العنصرية أيضا؟ ما هو إسلام الطاهر بن جلون؟ هل هو إسلام ابن عربي “دين الحب”، أم إسلام ابن رشد العقلاني؟ أم هو إسلام الطاهر بن جلون، فقط، كما يمكن أن يكون إسلام زيد أو عمرو، بمعنى أنه شأن فردي؟
الطاهر بن جلون: الإسلام تجربة روحانية قبل كل شيء. وحينما نقرأ ابن عربي وغيره من المتصوفة، أو الحلاج مثلا، نجدهم يقدمون هذا العمق الروحي للإسلام في قصائد شعرية راقية جدا. وما من متصوف عظيم لم يكتب شعرا عظيما. وهذا هو الإسلام الذي نريد، إسلام الشعر وإسلام الروحانية. أما إسلام المشعوذين فعلينا أن نتركه جانبا، وأن لا نثق في هؤلاء الذين يجعلون من الدين مطية للوصول إلى الحكم من أجل استعباد الناس. لأجل ذلك، وجب علينا أن نحترم هذا الدين، وألّا نستغله من أجل الوصول إلى الحكم عن طريق الكذب على الشعب. ومتى احترمنا الدين أمكن أن نعيش في سلام.
الجديد: ولكن، كيف يمكن أن نقنع الغرب بوجود إسلام على هذا القدر من النبل والجمال، والحال أن الهجمات والعمليات الإرهابية باتت تشكك في وجود إسلام متسامح؛ هنا ننتقل إلى كتاب “الإرهاب كما نشرحه لأبنائنا”. إذا لم يكن الإسلام إرهابا، فما هو مصدر هذا الإرهاب؟
الطاهر بن جلون: أتذكر كم كان إسلام والديَّ وأجدادي جميلا وهادئا ومسالما. والآن، هنالك من جعل من الدين أيديولوجيا حرب. لعل هذا هو السبب الذي جعل الغرب ينظر إلى الإسلام باعتباره خطرا وأيديولوجيا إرهابية. والمشعوذون والمرتزقة هم الذين تلاعبوا بالإسلام وشوهوا صورته، حتى بات من الصعب أن نعود اليوم إلى إسلام مسالم، وباتت أميركا تحارب كل ما له علاقة بالإسلام، سواء أكان صحيحا أم خاطئا. وهذا هو صدام الجهالات الذي لطالما حذرت منه، إذ لا بد من استئناف حوار جديد بيننا وبين الآخرين، لضمان التواصل والتعايش بين الأجيال المقبلة في الغرب والعالم الإسلامي، عبر تجاوز حالة الجهل المتبادل.
الجديد: قلت لابنتك في تلك المحاورة “السقراطية” إن الحل لمواجهة الإرهاب إنما يكمن في التربية. إذا كنا نعرف أن التعليم منحط في الدول العربية، أفلا يمكن القول إن ذلك مقصود من قبل الأنظمة حتى لا يتحقق ويتخلق وعي داخل مجتمعاتنا؟
الطاهر بن جلون: سواء تعلق الأمر بالعنصرية أم بالإرهاب، فإن التربية هي الحل دائما. وعلينا أن نشرح للأجيال المقبلة أسباب صعود الإرهاب، والسياق التاريخي الذي تمخض عنه، مثلما وجب أن نفرق بين الإرهاب والمقاومة؛ فإسرائيل -ومعها الولايات المتحدة الأميركية- استطاعت إقبار القضية الفلسطينية بالكثير من الوسائل، ومن بينها تسمية المقاومة إرهابا.
وحين نتحدث عن التربية سبيلا إلى القضاء على الإرهاب وجب أن نعلن عن مراجعة شاملة للمقررات الدراسية، وأن نربي أبناءنا على قيم التسامح ونبذ التعصب والكراهية، وأن ندرس تاريخ الأديان الثلاثة وفضائل هذه الديانات ومبادئها الكونية…
الجديد: نصل الآن إلى الكتاب الأول من ثلاثية “الشروحات”، وهو كتاب “شرح العنصرية لابنتي”. أنت الذي تعيش الحياة اليومية في فرنسا، ألا ترى أن الإرهاب يغذي العنصرية بقدر ما تغذي العنصرية الإرهاب أيضا؟
الطاهر بن جلون: بكل تأكيد؛ فعندما يتم ربط الإرهاب بالإسلام يغدو كل مسلم إرهابيا في نظر الغرب. وأول المتضررين من هذا التمثل الخاطئ هم أبناء الجاليات المسلمة في أوروبا وغيرها. صحيح أن هنالك إسلاميين قاموا بأعمال إرهابية غير مقبولة ولا تغتفر، إلا أن هذه الأفعال الشنيعة لا ينبغي أن تنسحب على جميع المسلمين. ومع ذلك ما زلنا نتابع سلوكات وأعمالا غير مقبولة ومستفزة تسيء لصورة الإسلام في أوروبا، ومن ذلك إصرار البعض على قطع الطريق العام لأداء صلاة الجمعة. بينما لا يمكن أن نقبل نحن في مدينة الدار البيضاء بطائفة يهودية أو مسيحية تؤدي صلاتها في الفضاء العمومي… ثم هنالك هذا اللباس الأفغاني الدخيل والغريب عن الإسلام والمسلمين، والذي يسيء إلى صورة المسلمين في أوروبا، ويسيء إلى المرأة، لأنه يعبر عن حالة تمييز صارخة بين الجنسين، حين يُكفن جسد المرأة في ثوب أسود، ويكاد يمنعها من التنفس والحياة.
الجديد: في مقال نشرته في جريدة “لافانغوارديا” قبل 15 سنة، قلت إن المرأة هي مستقبل الإسلام؛ أي أنك تقيس تطور الإسلام بتطور نظرته إلى المرأة ومعاملته لها. أليس كذلك أستاذ الطاهر بن جلون؟
الطاهر بن جلون: نعم، المرأة هي مستقبل الرجل، وهي مستقبل الإسلام، ومتى تغيرت أوضاع المرأة في العالم الإسلامي تغيرت النظرة إلى الإسلام، وحظي بالاحترام حينها.
للأسف، ما زلنا نحن العرب لا نحترم المرأة بما هي إنسان وشخصية. وما زال أغلب المسلمين يمانعون في عرض المرأة على طبيب أخصائي من أجل العلاج، إلى غير ذلك من المظاهر التي نحتقر فيها المرأة وننظر إليها على أنها متاع ومحض موضوع جنسي، لنغدو نحن أنفسنا موضوع احتقار وازدراء من قبل الآخرين.
الجديد: سبق أن قلت إن على أوروبا، إن هي أرادت الانتصار على الإرهاب، أن تعتني بالمسلمين الموجودين فوق ترابها. أليست مهمة صعبة؟
الطاهر بن جلون: وأكثر من ذلك، يمكن القول إن الجالية المسلمة في أوروبا لم يُعترف بها إلى حد الآن، حتى يكون هنالك اهتمام جدي بأوضاعها. وهي مسؤولية أوروبا أولا، مثلما هي مسؤولية المسلمين أنفسهم. فاليهود المقيمون في فرنسا منظمون بشكل كبير. ولهم ممثلهم الخاص الذي يمثلهم، وهو المتحدث باسمهم والناطق بمطالبهم، بينما المسلمون غير منظمين على الإطلاق؛ لأن هذا له إسلام تركي وآخر له إسلام مغربي أو سنغالي، وليس لهم ممثل واحد يتحدث باسمهم أمام المسؤولين، وهذا هو أصل المشكلة. فلا يعقل أن يتواجد في فرنسا ما بين 5 إلى 6 ملايين مسلم، دون أن يكونوا منظمين، في مقابل 600 ألف يهودي ينتظمون في إطار واحد يسهر على ضمان مصالحهم وتحقيق مطالبهم.
الجالية المسلمة في أوروبا لم يُعترف بها إلى حد الآن، حتى يكون هنالك اهتمام جدي بأوضاعها. وهي مسؤولية أوروبا أولا، مثلما هي مسؤولية المسلمين أنفسهم. فاليهود المقيمون في فرنسا منظمون بشكل كبير. ولهم ممثلهم الخاص الذي يمثلهم
المشكلة هي أننا نفتقد إلى ثقافة التضامن، وهذه هي المأساة: ألّا نتحد ولا نتضامن. وسيأتي وقت يصير فيه هذا العالم العربي منحطا إلى أقصى درجة، ومشتتا بشكل مريع وفظيع. والمؤسف هو أننا لا نستحق ما هو أفضل، بعدما بلغنا درجة عالية من الانحطاط.
على الضفة الأخرى، من واجب الغرب أن يتحمل مسؤوليته هو الآخر، وأن ينفتح على المسلمين، وأن يتشرب تاريخ الإسلام وحضارته المضيئة، وألا يجعل، هو الآخر، من الإسلام دينا للعن، وهو منه براء.
الجديد: مرة قلت إن المطلوب ليس تغيير الإسلام بل تغيير المسلمين. أليست مهمة صعبة أيضا؟
الطاهر بن جلون: طبعا، لأنه لا مجال لتغيير النصوص. وعليه، لا بد من حث الناس على القيام بقراءة جديدة وذكية وعقلانية للنصوص الدينية. فنحن نعيش زمنا عقلانيا، ولا يمكن أن نستمر في تقديم فهم تافه للدين. فهنالك أشياء لم تعد صالحة اليوم، وعلينا أن نعيد النظر في بعض القراءات من أجل مواجهة العالم الجديد الذي نعيش فيه.
الجديد: في فرنسا، التي تعيش فيها، وتكتب بلغتها، يلاحظ أن هذه الدولة تتعامل بمنطق الإدماج، حيث تحرص على إدماج المهاجرين ومحاولة تذويبهم داخل المجتمع الفرنسي، ولا تترك لهم حق الاحتفاظ بملامح هويتهم وثقافتهم، على غرار المقاربة الألمانية، وهو ما أدى إلى رفض مظاهر الحجاب في المؤسسات التعليمية، مثلا، ما يُوَلِّدُ نوعا من الاحتقان والعنف ورفض الآخر؟
الطاهر بن جلون: أظن أن سياسة الإدماج لم تنجح في فرنسا لأن المهاجر الذي يأتي من الخارج لا حاجة له في الاندماج أصلا، وهو يعتبر نفسه عابرا فقط. أما أبناؤه فهم ليسوا مهاجرين بل أوروبيون، وإن لم يُعترف بهم كأوروبيين بنسبة مئة في المئة. هكذا وصلنا إلى حالة عدم الاعتراف بالجيل الثاني والثالث من المهاجرين بما هم فرنسيون مثل غيرهم. وحالة عدم الاعتراف هذه هي من بين أسباب الاحتقان.
وحين تتعامل الشرطة بعنصرية مع المهاجر المسلم، وحين تنظر إليه على أنه مواطن من الدرجة الثانية، فإن كل ذلك يولد كراهية ونظرة عدائية دفعت الشباب المسلم إلى الانعزال على هامش المجتمع الفرنسي، ودفعت بعض الشباب إلى الالتحاق بمعسكرات الجهاد في سوريا والعراق، أو انتهت ببعضهم الآخر إلى الضلوع في تفجيرات إرهابية في قلب أوروبا. وتؤكد الإحصائيات أن ما يناهز 1500 من الشباب المغاربة التحقوا بمعسكرات داعش في سوريا والعراق، وبقي هنالك آخرون يشبهون قنبلة موقوتة تريد أن تنفجر.
الجديد: قلت، مؤخرا، إنه لم يعد هنالك وجود لعالم عربي. كيف، وأين اختفى؟ وما علاقة كلامك بما جرى ويجري في سوريا والعراق واليمن؟
الطاهر بن جلون: ينبغي أن نتحدث هنا بكل موضوعية، بعيدا عن عاطفة الانتماء؛ فلا بد من وجود ملموس لهذا الذي نسميه عالما عربيا، ولا بد من الإحساس به. والحال أنه ليس هنالك من تضامن عربي على جميع المستويات، ولا أثر لقوة عربية متحدة، كما لا نعثر على أي مبادلات اقتصادية عربية قوية… فلماذا نتحدث عن وجود عالم عربي، وبأي معنى نزعم ذلك؟
هنالك دليل ساطع على ما أقول، يتمثل في القضية الفلسطينية التي صارت مهملة ونسيا منسيا؛ لقد تم إقبار القضية الفلسطينية بشكل رهيب، وأصبح في إمكان إسرائيل أن تفعل ما تشاء بالشعب الفلسطيني والأراضي الفلسطينية، وأن تعلن القدس عاصمة لها، بمساندة ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية، التي تقدم لها دعما غير مشروط. هكذا، صار الشعب الفلسطيني يُقَتَّلُ من غير أن تقوم أية ضجة في العالم. ولم يعد أحد يقوى على إدانة إسرائيل واستنكار ممارساتها، وصارت إسرائيل أقوى دولة في العالم. هذه الدولة الاستيطانية التي أغلقت كل أبواب المفاوضات وأخرست كل الأفواه. وبينما كنا نسمع أصوات المثقفين العرب ترتفع لتجهر بإدانة السياسة الإسرائيلية، لم نعد نسمع الآن صدى لأي صوت.
الجديد: بسبب الرداءة القصوى التي وصلت إليها الممارسة السياسية عندنا، هجر المثقفون السياسة، وأعرضوا عن متابعتها متابعة نقدية، فخلت الساحة لتجار السياسة ومرتزقتها، كما يقول البعض. أليست هذه مفارقة يقع فيها مثقف اليوم أمام ما يجري من أحداث ودماء، وما يقع من تصدعات وانهيارات كبرى؟
الطاهر بن جلون: المثقف العربي كائن مضطهد في الكثير من الدول العربية، في العراق وسوريا ومصر… وهذا المثقف حين يصطف في خندق المعارضة، ولو كانت سلمية، يُلقى به في غياهب السجون أو يدفع دفعا للإقامة في المنافي. فلا تزال أنظمتنا السياسية تهاب الحرية، وتخاف من الفكر والوعي، ولا يزال يُنظر إلى المثقف على أنه عدو للنظام القائم.
والحال أنه لم يعد في مقدورنا أن نمارس الرقابة على الأفراد والجماعات في زمن التواصل الرقمي، حيث الأخبار مطروحة في الطريق، وحيث يمكن الوصول إلى المعلومة في ظرف قياسي، ولا مجال لإخفائها أو حظرها.
نلاحظ اليوم وجود مجموعة من المثقفين الذين استقروا في بلدان أوروبية، في ألمانيا وإنكلترا وهولندا وفرنسا، وهم يجهرون بمواقفهم ويعبرون بكل حرية. وفي العالم العربي، تقام حملات ضد بعضهم، ويتهمون بأنهم خونة، وإذا ظلوا في بلدانهم العربية فهم مضطهدون ومقموعون. والكثير من المثقفين الذين شاركوا في ميادين التحرير العربية يقبعون الآن في السجون، ولا أحد يتحدث عنهم. والوضعية نفسها يعيشها مثقفون في تركيا، حيث يتعرض معارضو النظام الدكتاتوري للقمع، وهو النظام الذي يوظف الدين لاضطهاد معارضيه.
الجديد: في العالم العربي أيضا، أو بين أنقاضه على الأصح، هنالك كتابات واكبت الثورات العربية الجديدة. هل يمكن الحديث عن أدب الربيع العربي، وأنت الذي ألفت كتابين عن هذه المرحلة الدامية من تاريخنا المعاصر؟
الطاهر بن جلون: الربيع العربي لم يقل كلمته بعد، لأن المأساة الأكبر هي مأساة سوريا، حيث يقوم دكتاتور مجنون بقتل شعبه وتدمير بلده. لهذا، ينبغي أن يُحاكم بشار الأسد أكثر من مرة، لأنه من أكبر المجرمين في العالم العربي. وقد تجاوز ما قام به والده في مجزرة حماه. وأطالب بأن يحاكم بشار من قبل الشعب السوري، الذي ذهب ضحية هذا المجرم الكبير، مثلما أطالب بمحاكمة غيره من المجرمين، كما طالبت من قبل بمحاكمة جورج بوش، الذي شن حربا قاتلة على الشعب العراقي دون موجب حق، وهي الحرب التي مهدت لكل هذا الدمار والخراب الشامل الذي نعيش تحت أنقاضه كما قلت. أما ما كُتب وسيكتب عن الربيع العربي من نصوص روائية وشعرية وفكرية، وأعمال سينمائية وفنية، فسيبقى شهادة أدبية مريرة من شأنها أن تغني وتثري الأدب العالمي.
الربيع العربي لم يقل كلمته إذن، ولا يمكن أن ينتهي ما دام ثورة شعبية عارمة، لم يقدها إسلاميون ولا غيرهم. إنها ثورة غير أيديولوجية، وانتفاضة عربية ضد الفساد والاستبداد، أكدت لنا أن الإنسان العربي لم يعد يقبل بأن يكون خانعا خاضعا لسلطة الدكتاتور، بعدما اكتشف صوته الحقيقي واكتشف حريته في ميادين التحرير العربية.
الجديد: في المغرب والعالم العربي، أنت كاتب فرنكوفوني، يكتب بالفرنسية. وفي فرنسا، أنت كاتب عربي مغربي، وإن كتبت بلغة الفرنسيين. كيف يحيا الطاهر بن جلون هذه المفارقة؟
الطاهر بن جلون: أعتبر نفسي كاتبا فقط. ولا أعير أية أهمية للغة التي يكتب بها الكاتب. وإذا كانت أعمالي قد ترجمت إلى 47 لغة، فلا فرق بين أن أكون كاتبا بالعربية أو الصينية أو الفرنسية، فهذا أمر ليست له أهمية كبيرة. المهم في نظري هو ماذا تكتب؟ وهل تمتع الناس؟ وهل تقنعهم بالحق في الحلم والأمل والحياة؟