ولد خواد بمنطقة إير بالنيجر. هناك سيتلقى تعليمه الأول على طريقة الرحل، بعيدا عن العالم الأكاديمي، ليستطيع خلق طريقته الخاصة في التفكير، وفي الحوار مع الآخر، مع حرصه على الانتفاح على الثقافة العربية وغيرها من الثقافات الإنسانية.
أصدر خواد، الذي يعيش متنقلا ببن الصحراء وفرنسا، عددا من الأعمال الشعرية، التي تحمل أثر الخوف من زوال شعب بكامله وهو شعب الطوارق. إذ سيجعل من الترحال فضاءه الشعري والفكري، باحثا في نفس الوقت عن إنتاج قصيدة محصنة بمعرفتها الخاصة.
اختار خواد أن يبقى وفيا للغته الطارقية، وهي التي يكتب بها كل نصوصه الإبداعية. ولعلها تلك طريقته للانتصار للغة قد تبدو مهددة في خضم تجاذب لغات وثقافات العالم الكبرى. من أعمال خواد “قافلة العطش” و”أغاني العطش والتيه” و”الحُميات السبع والقمر”، بالإضافة إلى نص “وصية البدوي” الذي ترجمه أدونيس.
الجديد: إذا طلبتُ منك أن تقدم بورتريها شخصيا. أيّ التفاصيل يمكن أن تستحضرها بشكل أكبر؟
محمدين خواد: أظن أنني حصلت منذ طفولتي على كل الوسائل التي هيأتني لتلقي وتمثل توابث ومتغيرات كل الأفكار، مع تملكي لحساسية خاصة كانت تمكنني من فهم هذه الأفكار باعتبارها جزءا من كينونتي.
ومنحتني تربيتي المنفتحة، داخل فضاء الصحراء، حرية التفكير، ليس فقط في عالمي الصغير، ولكن أيضا في الآخر وفي طرق تمثله للعالم. ولم يكن الأمر يهمني وحدي فقط. إذ كان العديد من أفراد شعب الطوارق يبحثون دائما عن العبور نحو الآخر. وانطلاقا من تصورنا للعالم ومن طريقتنا في التفكير ومن ثقافتنا العريقة، نحن الطوارق الرحل، كنتُ مهيأ للاهتمام بالفلسفات المنتمية إلى فضاء البحر الأبيض المتوسط، وخصوصا المتعلقة منها بالديانات الثلاث المتجلية في اليهودية والمسيحية والإسلام، وأيضا بإسهامات الثقافات الأخرى. وبذلك، كانت معرفتي بالتيارات الفكرية اليونانية – الرومانية والإسلامية مبكرة، وإن كنتُ لم أعتبرها يوما ما حقيقة مطلقة يمكن أن تلغي تمثلات الشعوب الأخرى، كما هو الأمر بالنسبة إلى جيراننا في جنوب الصحراء، الذين لهم طريقتهم الخاصة في تصور العالم وفي تمثل الطبيعة.
يجب على النص أن يرتحل داخل عوالم ولغات أخرى. وتلك طريقة لخلق امتدادات مدهشة للنص الأصلي
وكان الرهان هو معرفة كيفية تفكيك فكر ما، وتحليله، بغية خلق فكر جديد ومغاير. ولم يكن الأمر يتعلق أبدا بتملك هذه الإسهامات على حساب أنفسنا. إذ كنا ننظر إليها باعتبارها وسائل تمكن الطفل من التفكير. وخلال هذه الفترة، كانت لدينا مدارس أشبه بحلقات التفكير، وكانت تمنح إمكانيات التكوين والتربية والتوجيه. كما كان هناك مدرسون متخصصون في عدد من الحقول، سواء تعلق الأمر بالتاريخ أو الفلسفة أو علم النفس أو الأدب أو علم النبات أو غيرها من المجالات. كما كانت لدينا حلقات صوفية، حيث كنا ندرس النظريات القديمة والحديثة المتعلقة بالفضاء الصوفي، سواء بشمال أفريقيا أو بالشرق الأوسط. كما كانت شبكاتنا القائمة على التبادل تمكننا من معرفة ما يحدث بالعالم.
وكان عليّ، فيما بعد، أن أقيم بمصر، ثم بالعراق، من أجل تعميق معرفتي بالنصوص الكبرى المؤسِّسة. كما طُفت كل بلدان شمال أفريقيا. واخترت أن أسافر إلى بلجيكا، ثم إلى فرنسا، مع بداية سبعينات القرن الماضي، مدفوعا بالرغبة في فهم طريقة تفكير الشبان الذي قادوا حركة 1968 بفرنسا، لأعود إلى الصحراء بعد أشهر من المعاناة. غير أن الحياة هناك ستصير محفوفة بالمخاطر، خصوصا مع إنشاء الدول الخمس على حساب الطوارق، وتوالي تحرشاتها التي كانت تهدف إلى التضييق على حرية التحرك. لم يكن لي أيّ خيار غير الهجرة. حيث أقيم حاليا متنقلا ببن فرنسا والصحراء.
الجديد: إذن متى انتبهتَ إلى رغبتك في أن تصير كاتبا؟
محمدين خواد: كان ذلك في اللحظة التي أدركتُ فيها أن مآل الإنسان الحر، أينما كان، هو الانهزام، وأن المقاومة التي قد يبديها المنهزمون، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، تبدو مستحيلة. أما السلاح الذي يتبقى أمام المنهزم والذي يمكن أن يمنحه هامشا لتجاوز قوة المنتصرين فهو بالضبط الكتابة. وأكثر من ذلك، فإن الكتابة تشكل، على الأقل على المستوى الكاليغرافي، وسيلة مدهشة، باعتبارها تتشكل من السطور والدوائر والأحرف. ولعل ذلك ما يمكن أن يمنح فضاء لمن صودر وطنه.
في مقابل ذلك، لم يسبق لي في البداية، أن فكرت في أن أصير كاتبا. وكنت أستعمل الكتابة فقط كسجل شخصي لتدوين إحساساتي الصغيرة. ثم قررتُ، خلال منتصف سبعينات القرن الماضي، الكتابة من أجل التحاور مع الآخر. وكنت حينها أعيش بين الصحراء وشمال أفريقيا وأوروبا، باحثا عن أرض ما وعن فضاء لا تثقله الحدود. بينما لم يكن يروقني أي شيء. كنت مريضا ومحبطا ومحاصرا من طرف الدول ومن منطقها الاقتصادي والسياسي الغريب والمهدِّم. وكان عليّ بالتالي أن أخلق فضاء خاصا بي بعيدا عن حصارها. وإن كنت حينها غير مقتنع بجدوى الكتابة للآخر، لأنني، بكل بساطة، لم أكن أومن به. وهو الأمر الذي سأتجاوزه مع توالي السنين.
الجديد: أنت أحد شعراء جيل التسعينات. كيف تتمثلُ خصوصيات جيلك الأدبي وطبيعة علاقاته بالجيل الجديد؟
محمدين خواد: أظن أن أغلب شعراء جيلي كانون يبدون كثيرا من الانفتاح إزاء كل التجارب الشعرية بمعزل، سواء عن لغاتها أو انتمائها الجغرافي أو جانبها الجمالي. إذ أنهم كانوا يعون بكون ما يميز القصيدة هو بالضبط ما يحررها من اللغات. وبذلك، كان التيار السائد حينها يقوم على تحرير القصيدة ومعها الشاعر أيضا، بالرغم من وجود جمارك الأدب! غير أن هذا الأمر سيتراجع مع الأجيال الجديدة. إذ أن الفضاء الذي كنا نحرص على فتحه أمام القصيدة تم استبداله بالفضاء الإلكتروني وبعالم النت الأزرق، ولم يعد يُطرح سؤال توسيع فضاء العاطفة والروح. وبالنسبة إليّ، لست متيقنا من قدرة الجيل الجديد على قطع المسار الطويل الذي يحرر القصيدة من النماذج والأشكال.
الجديد: كنتَ قد صرّحتَ في حوار لك مع الروائية أمنيتا حيدرة قائلا “أنا أتحدث عن الحياة اليومية للطوارق المحاصرين بين خمس دول. البقاء هناك يعني اللجوء. أما الرحيل فيعني المنفى. وفي كلا الحالتين، يبدو الأمر صعبا. إنها حياة الطوراق”. ما الذي يعنيه أن تكونا طارقيا اليوم؟
محمدين خواد: إنه وضع صعب للغاية، وهو وضع يعيشه عدد من الطوارق، والذين صاروا يعتبرون التحدث باللغة الطارقية عبئا ثقيلا. وحينما نستعمل كلمة “ثقيل” في لغتنا فنعني بها الشيء الثقيل جدا. ورغم ذلك، هناك شكل من أشكال الوعي الذي يستلزم من الجميع عدم يبيع أنفسهم. إنه نفس الوعي الذي يقتضي منا أيضا أن نحافظ على موقعنا بين عدد من القوى والعديد من الضغوطات، وأن تقف صامدين فوق قمة الأمواج، وإن كان ذلك صعبا. ورغم ذلك، أظن أن الأمر سهل. إذ يقتضي ذلك فحص ما يحدث، وفهم جميع القوى المؤثرة والتيارات الصاعدة والنازلة. كما يقتضي ذلك منا رسم فضائنا الخاص داخل هذه الأوضاع، وذلك دون أن نفقد ذواتنا الهشة ودون المبالغة في تقدير قوة التيارات التي تسحقنا، والتي لها أيضا حدودها وهشاشتها. وبالتالي، يجب أن ننظر إلى الأشياء، وأن ننصت إلى أصواتها، وذلك دون أن نجعل من الطوارق شعبا مهمشا، خارج العالم. بل يجب علينا أن نحافظ على نغمات أصواته حتى لو لم نعد نستطيع سماعها، دون أن نتوهم بأن الأصوات هي ملك لنا وحدنا فقط، وأيضا دون أن ننكفئ على أنفسنا.
وبالنسبة إليّ، لا يمكنني أن أكون ألأخر ولا أن أحبه، ولا أن أكرهه، بمعزل عن هويتي كطارقي. وبشكل مختزل، أن أكون طارقيا اليوم يعني أن أفتح هويتي أمام فضاءات وآفاق وعوالم أوسع، وأن أفهم جيدا محيطي وأستوعب منطقه، دون أن أفقد قوتي الداخلية، وأن أنتمي إلى العالم دون أن يمحوني، وأن أواجه العاصفة دون أن أتيه داخلها. ويمكنني أن أكون الآخر. ولكن يهمني أيضا أن أحافظ على هويتي التي لا تكتفي بما يمكن أن تكتسبه عبر شبكة العلاقات الاجتماعية وإغراءات الهويات الأخرى.
وبصيغة أخرى، أن أكون طارقيا اليوم يعني أن أمتلك القدرة على أن أعيش مطوقا بالدائرة التي تهيمن على العالم، وأن أحتفظ في نفس الوقت بمركزي الخاص، حتى لو اقتضى الأمر رسمه عبر أحلامنا.
الجديد: “الصحراء ليست مرآة. إنها بالأحرى جسد هارب يتمظهر عبر تجلياته اللامتناهية، يثور وينطفئ، ويولد من جديد، خارج الزمن والفضاء”، كما سبق لك أن كتبت. كيف يمكن للصحراء أن تمتلك كل هذه الأبعاد؟
محمدين خواد: حينما يكون أحد ما قد وُلد في الصحراء، أو عاش فيها، أو روّض الصحراء أو روضته الصحراء، يمكنه أن يتمثلها عبر أشكالها المتعددة. إنها جسد. إنها أيضا مادة تختفي وتتحرك وترحل وتثور. كما أن الصحراء مثل الطقس بتغيراته التي لا تنتهي. كما أنها تعكس حالاتنا النفسية المتعددة، بل إن الصحراء تملك القدرة أيضا على تغيير هذه الحالات والتأثير فيها. أيّ أبعاد الصحراء التي يمكنني استحضارها إذن؟
لعل البعد الأقرب إلينا، نحن الذين نعيش في الصحراء، هو البعد غير المتناهي، الذي تتعدد أوجهه وصفاته، والذي يذهب ويعود كالنَّفس. إنه البعد نفسه الذي كُتب له أن يرحل دائما نحو أمكنة غير ملموسة.
الجديد: تحضر الرحلة كثيرا في حياتك وفي نصوصك الشعرية وفي حياة الطوارق بشكل عام. كيف يمكن للإنسان أن يكون رحالا اليوم في اللحظة التي صارت تحاصره الحدود؟
محمدين خواد: الأمر بسيط. يجب النظر إلى العالم كحزمة، حيث يمكن وضع الكون والفضاءات والدول والشعوب ومختلف الديانات داخلها. وكما يفعل المتوسل، يمكننا وضع الحزمة فوق أكتافنا، وأن نوهم أنفسنا بأننا نحمل كل تفاصيل الكون، بما فيها الثقافات والجغرافيات والمسافات والاختلافات والوجوه والرجال والنساء والديانات والأحكام المسبقة والصراعات والتشنجات. وعند ذلك، يمكننا أن نعتبر الفضاءات التي تنبثق منها كل هذه التفاصيل ملكا لنا، وأن نجعل من هذه الفضاءات فضاء لنا جميعا.
وبالتالي، أن يكون الإنسان رحالا في الوقت الراهن فيعني ذلك أن يمتلك القدرة على أن يكون في كل مكان انطلاقا من مقامه، وأن يرى في كل وجه وفي كل ثقافة وفي كل بلد وفي غيرها من التفاصيل جزءا من كينونته.
وبالنسبة إليّ، المشكل لا يكمن، في الوقت الراهن، في أن أعرف كيف أكون رحالا، بل في الطريقة التي تمكنني من أصير أكثر من ذلك. فحين أكون رحالا، قد يؤول بي المآل إلى الاستقرار والتوقف عن الترحل، أو قد أصير سمينا بفعل الإكثار من الأكل. ولأن حياة الترحال صارت مهددة بحكم تزايد الحدود بين الدول، ومعها صعوبة التنقل، فقد صار من الضروري تجاوز هذه الحياة إلى مستوى تملّك كل شيء، كما لو أنه جزء من كينونتي. وذلك بشكل ينطفئ معه وجود الغريب والآخر. كما تصير، وفق نفس المنطق، كل الثقافات باختلافاتها هي ثقافتي. وبالتالي لن أرفض مع هذا الوضع إلا ما يعيق ذهابي نحو الآخر.
ولا يكمن هدفي في تملكي للآخر ولا في أن يتملكني الآخر، بل فقط في أن أقوده نحوي لكي نتمشى جنبا إلى جنب. لأن ما نبحث عنه سويا هو الأفق الذي علينا أن نؤسسه جميعا، وهي أيضا الحياة التي يجب أن تكون متحررة من الجمارك والسياجات والجدران. وعلينا أن نأمل بوجود عالم آخر. وإذا كان هذا العالم غير موجود، فإن قوة هذا الأمل هي بالضبط التي تمكّننا من الاستمرار في الحياة. وأظن أن الذي يملك هذه القوة لا يمكنه أن يصاب أبدا بخيبة أمل. وإن كنا جميعا تنتابنا حالات الكآبة.
الجديد: أنتَ لست منتوج الوسط الجامعي ولا الأكاديمي، كما تحب أن تقدم نفسك. ما هي إذن المرجعيات الفكرية التي كانت وراء تشكل فكرك؟
محمدين خواد: لقد استندت طيلة حياتي إلى كثير من الأفكار المتناقضة أحيانا. غير أنني لم أكن أبدا أسير ثقافة أو فكرة ما. أما الذي أبحث عنه فيكمن في ما وراء الأفكار. وتلك هي الطريقة التي تمكنني من صياغتي لموقفي الخاص. ولعل من بين أهم الأسماء التي استهوتني، في هذا الإطار، الحلاج وابن عربي وغيرهما من الذين كانوا ضد التبعية الفكرية.
أما اللغة الأجنبية الأولى التي تعلمتها فهي العربية، بالإضافة إلى لغة الهوسا التي يستعملها جيراننا بالجنوب. وسأدرك فيما بعد بأنه لا يجب عليّ أن أكتفي بما تنقله فقط الكتابات العربية، حيث كان عليّ أيضا أن أتقن اللغات التي جاءت مع الاستعمار ومنها الفرنسية، والتي كنتُ أعارض تواجدها في البداية. وبذلك، تمكنت من قراءة النصوص التي تهمني على مستوى طابعها الثوري، وأيضا نصوص الهامش التي تحاول خلق عالمها الخاص. وذلك بالإضافة إلى الأعمال السوسيولوجية والفلسفية، ومنها أعمال دولوز.
الجديد: بموازاة مسارك الشعري والروائي، راكمت تجربة على مستوى العمل التشكيلي. كيف تتثمل العلاقات بين مشروعيك الأدبي والفني؟
محمدين خواد: بالنسبة إليّ، الكتابة والتشكيل جزءان من مكون واحد. ويمكنني اختزالهما في عمليتين: الصراخ والحركة. فحينما يصل صوت الصراخ إلى منتهاه، أمنحه امتدادا آخر عبر الحركة. وإذا كان العمل الإبداعي يهدف إلى التعبير عن الحواس فإنه يقتضي بالتالي البحث عن اللغة التي يمكنها أن تعبر بشكل كبير عن دواخلنا. وهو الأمر الذي أسعى إلى تحقيقه عبر لغة متحررة لا تؤمن بالمقاسات ولا بالحدود.
الجديد: تحرص أثناء قراءاتك الشعرية على منحها بعض من الفرجة. ما الذي يمكن أن يهبه ذلك للنص؟
محمدين خواد: لا أحب كلمة “الفرجة” وإن كانت تعبّر عن الأمر. في مقابل ذلك، أحرص على منح القصيدة حركية بإمكانها أن تعكس أريج الأحاسيس. وهو ما يمكن أن يفتح الباب أمام تفسيرات متعددة ومتناقضة لمكونات النص. إذ لا يجب أن تظل القصيدة أسيرة الورق. بل يتوجب أن تُكتب من جديد عبر الصراخ والغناء والصدى.
الجديد: ترجمت أعمالك إلى العديد من اللغات. ما الذي يمكن أن يمنحه ذلك لشاعر يكتب بلغة شبه محرومة من القراء؟
محمدين خواد: بالنسبة إليّ، يجب على النص أن يرتحل داخل عوالم ولغات أخرى. وتلك طريقة لخلق امتدادات مدهشة للنص الأصلي. وبذلك فالترجمة تعكس تعدد الآفاق والفضاءات. وإذا كان بإمكان الترجمة أن تشوه النص فذلك جزء من المغامرة. وقد يكون ذلك أيضا جزءا من مسار إعادة كتابة النص الأصلي التي لا تنتهي.
الجديد: أنت تقيم بفرنسا منذ سنوات. هل أنت مدين لهذه التجربة؟
محمدين خواد: الحقيقة أن هذه الإقامة منحتني حرية التنفس، وحرية أن أحبّ أو أن أكره الآخر. ولا أعتبر نفسي لاجئا ما دام لا أحد يجرؤ على التدخل في طريقة حياتي وتفكيري.
الجديد: حصلتَ على عدد من الجوائز، كانت آخرها جائزة الأركانة الشعرية التي يمنحها بيت الشعر في المغرب. ماذا يمكن أن تمنحه الجوائز لكاتب لا يبدو معنيا بالأضواء؟
محمدين خواد: يمكن أن أقول بقليل من التباهي: الخبز!. إذ أن الشعر لا يطعم. وبإمكان الجائزة بالتالي أن تمنح حرية عدم التفكير في البطن وهو عدوّ الشعر بامتياز. بالطبع، تمثل الجوائز أيضا فرصة للإحساس بالاعتراف بالقصيدة وبكرمها.
الجديد: كنت دائما قريبا من القصيدة العربية. ما الذي ورثته منها؟
محمدين خواد: كنت، منذ طفولتي، رفيقا ومحبا لهذه القصيدة. ومع تقدمي في السن، صرت أقرب إلى الشعراء العرب الذين ابتعدوا عن الشوفينية والذين فهموا أن عروبتهم تحتاج إلى الآخرين. إنهم بالضبط الذين استطاعوا تحرير قصيدتهم من بعدها العربي لكي تصير قصيدة كل البشر، وأيضا الذين تخلصوا من أصفاد لغاتنا ودياناتنا. هؤلاء هم أصدقائي ورفاقي في هذه الرحلة الشعرية التي تجمعنا. وأذكر من بينهم، على سبيل المثال، أدونيس.
إن هذه القصيدة هي قصيدتنا، وليست بالضرورة قصيدة طارقية ولا عربية. إذ أننا نحاول أن نصنع منها مجالا لا ينتمي إلى ثقافة واحدة. وإذا كنا نستعير اللغة والصور من ثقافتنا، فهدفنا لا يكمن في خلق قصيدة وطنية من أجل شعب أو دين أو دولة ما، إذ أن القصيدة تحررنا وتستضيفنا، لأنها في نفس الوقت أرض وزمن وفضاء واسع، مفتوح على الجميع.
الجديد: هل ما زالت القصيدة تملك هذه القوة وهذا الكرم داخل السياق الكوني بتحولاته المتسارعة؟
محمدين خواد: هناك فيلسوف، ولعله دولوز، يرى أن القصيدة تحفّز بقوة الخيال. وقد أضيف أنه يتوجب عليها أن تخلق نوعا من الصدمة من أجل الخروج من الوضعية الحالية. فالقصيدة تمنحنا مرآة لكي نتعرف على أنفسنا. كما تهبنا منظارا لكي نستطيع أن نرى أن هناك ضفافا أخرى وحيوات وطرقا أخرى للحياة وللتفكير. ويبدو أن العالم يحتاج في الوقت الراهن إلى القوة التدميرية للقصيدة، لكي يستطيع أن يدرك أن هناك طرقا أخرى للحياة غير التي يكرّسها، والتي تختلف عن حياة الإنسان المجرور وراء عربات التسوق في محلات السوبرماركت الكبرى. وبذلك، فالقصيدة تملك هذه القدرة على خلق الإنسان من جديد.