29 Mar
29Mar

من ولد وبين أنامله قلم لا بد أن يحترف الكتابة. تستدرجه إلى أحضانها. ترفض المساواة والضرة. كان والده معلما، درس على يده بقسم من أقسام التعليم الإبتدائي فأبان عن حبه للكلمات وتشكيلها ليقول ذاته والعالم، مثلما مواطنه مارسيل بانيول قبله. آمن بالثورة وفضائلها، والخبز والورد والحرية للجميع، واشتغل عاملا لسنوات بأحد المعامل. لكن الأنامل ألحّت عليه من جديد، وعادت تحُكه لتختبر إرادته، فانتصر لها. وكتب بعض ما أوحت له به سنوات العامل البروليتاري. وكتب مقالات فنودي عليه لإدارة الصفحات الثقافية لجريدة “ليبراسيون”، ثم نادى عليه الكِي دُورسيه ليكون سفيرا، “كلما مرّ الحظ بالقرب منّي تلقفته، وكنت أقول بيني وبين نفسي لن أبقى هنا مدى الحياة”. وقدم الاستقالة من مهمة السفير بعد خمس سنوات بالرغم من أنه يعتبر الصحافة والدبلوماسية ممارستين رائعتين لأنهما “تفتحان كل الأبواب والنوافذ”. مارس الوظيفتين، أو المهمتين بمحبة، “ولكنني حرصت دائما على العودة إلى بيتي لأكتب”. قبل عقدين ونيف، دعاني دانييل للإسهام في كتاب عن “بولز″، والتقينا مؤخرا، فكان هذا الحوار لمجلة “الجديد”.

دانييل لو أعدت طرح هذا السؤال عليك من جديد: كيف أتيت إلى الكتابة؟

دانييل روندو: جئت إليها وعمري سبعة أو ثمانية أعوام. كنت أوجد داخل قسم والدي، الذي كان معلما، وطلب منا صباح ذات يوم اثنين أن نكتب كل ما مرّ بنا يوم الأحد. أرى زملائي بالقسم وهم يجلسون إلى مقاعد طاولات صغيرة الحجم مثلي، تقتات منهم الحيرة والارتباك، لا يعرفون ما يحكون. وألقيت بنفسي على حاملة الريشة، وكانت الدواة تحتل وسط الطاولة وبداخلها مداد بلون بنفسجي.. وشرعت أحكي ما عشته يوم الأحد، الذي قضيته وسط كروم جدي التي كانت تسمى كروم “بيرنار”، وتوجد بقرية صغيرة من منطقة “شامبان”

. وكنت أشعر أن الكلمات تجذبني من يدي، وبدأ نبض أصابع يدي يزداد، بينما تزداد يدي ضراوة، وداهمت جسدي القشعريرة. وعندما شرع الوالد يجمع الدفاتر، كان كل الزملاء قد انتهوا من الحكي، فقلت للوالد لما وقف عليّ “سيدي، سيدي، لم أنته من الكتابة بعد. يجب أن أنتهي”. كنت قد ملأت صفحتين. ويومها قلت بيني وبين نفسي سأكون كاتبا. إنه النداء الحقيقي؛ فيه الميل والاستعداد والاندفاع لتلبية النداء. وفيما بعد كنت ثائرا، وكنت أرغب في تغيير العالم، بطبيعة الحال. وبعد أن فهمت أشياء وأشياء، بعد سنوات، ومنها سنوات قضيتها عاملا بأحد المعامل، فهمت أن العدالة المثالية التي أبحث عنها لا مكان لها في هذا العالم. وقلت لنفسي: أيها الشيخ الصغير، لن تستطيع تغيير العالم، ولكنك ستقضي العمر في حكيه.

 ما الذي بقي من “ماي 68 كلحظة من التاريخ، أولا، وحلم ثانيا؟

دانييل روندو: بالنسبة إليّ أعتقد أن ما بقي من “ماي 1968 فيّ شخصيا هو أني بقيت مخلصا لأمرين اثنين: الصدق والحماس.

 وحلما..

دانييل روندو: أصبحت لي أحلام أخرى، وتخليت أو تراجعت عن حلم تغيير العالم ما دامت العدالة المثالية لا وطن لها على الأرض.. وأعتقد الآن أن حكي العالم ووصفه يمثل نوعا من الاسهام في تحوله، في تغييره. والكتابة، وكتابة الرواية نوع من مساءلة مجتمعاتنا، وهي مجتمعات غير مستقرة؛ عرضة لفقدان التوازن والفوضى. وأعتقد أن فعل الحكي هو ممارسة التغيير.

أسهمت، في ثورة “ماي 68، تيارات مختلفة منها الماويون والتروتسكيون. ما الذي بقي من ماركس برأيك؟

دانييل روندو: لا شيء تقريبا. إنه أمر لا يهمني.. إني أخشى الأيديولوجيا. وأعتقد أن الأيدولوجيات ضارة جدا. ولما كنت أعتبر نفسي كاتبا ملتزما، كما أقول أحيانا، إنني ملتزم أولا في كتبي.

هل يمكن الحديث عن الالتزام الإنساني لصالح الإنسان؟


روندو: مبرر وجودي في الحياة هو الكتابة
روندو: مبرر وجودي في الحياة هو الكتابة


دانييل روندو: قلت قبل قليل لم أغادر روح ثورة 68 لبقائي مخلصا للصدق والحماس. لقد قضيت العمر أيضا أحارب وأناضل، فقد ناضلت من أجل لبنان، خلال عقد الثمانينات من القرن العشرين ناضلت من أجل لبنان حرّ ضد هيمنة حافظ الأسد يومها. ثم ناضلت من أجل البوسنة لما كانت أوروبا قد تخلت عن البوسنة. وقد كنت وضعت على رأس الأولويات قضية المهاجرين قبل أكثر من عشر سنوات ولم يكن أحد يتحدث عنها. وقد قمت بكل ما يجب القيام به في هذا الاتجاه. وقد قاتلت ضد تدمير تراث الانسانية الذي دمرته الدولة الإسلامية في تدمر بل في تومبوكتو أيضا. فقد كنت من أطلق النداء من أجل تومبوكتو من مدينة سان بيترسبورغ، والذي تمت استعادته عبر ربوع العالم فيما بعد. ولكنني لا أفصل أبدا بين حياتي والكتابة. إن مبرر وجودي في الحياة هو الكتابة.

لو انتقلنا إلى لحظة من النهاية، قبل أن نعود إلى مكاننا: ماذا أعطتك الكتابة حتى اللحظة الراهنة؟

دانييل روندو: إن الكتابة بالنسبة إليّ تمثل الابتهاج والتهلل الدائمين والمستمرين في الزمن، وهي صليب أيضا.. أي حمل ثقيل. فكل يوم يمر من دون أن أكتب خلاله هو يوم ضاع من حياتي، عندما أنطلق في الكتابة أكتب يوميا، في الصباح والمساء. وأعرف أن ذلك يمثل نوعا من الابتهاج والتهلل والتمجيد والحماس وبذل الجهد. ثم إنني لا أعرف شيئا أكثر صعوبة من الكتابة [ضاحكا]. لقد كنت صحافيا وناشرا وسفيرا ولا أعرف شيئا أصعب من الكتابة. وهكذا فإنني منشغل بالكتابة، والكتابة تملأ حياتي بمعنى من المعاني.

 ما الحصة الأكبر في ممارسة الكتابة، حصة الألم أم المتعة؟

دانييل روندو: يوجدان معا في عملية الكتابة، يتداخلان في بعضهما البعض. ويعبر فلوبير عن ذلك بدقة ووضوح قائلا “إن منبع إلهامي الوحيد هو العمل”. وما دام كل كاتب يتدبر طريق كتابته كيفما يريد أقول بالنسبة إليّ أتدبر سبيلي بالالتصاق بمكتب عملي والبقاء هناك. وتلك هي حلبة الصراع.

هل هناك طقوس معينة تخضع لها ككاتب؟

دانييل روندو: تعرف أني أسكن في بيت منعزل بشامبان، أبدأ الكتابة منذ الصباح. وتعتبر الساعات الأولى هي لحظات الارتخاء الوحيدة خلال النهار. ثم يبدأ بذل الجهد [ضاحكا].. أكتب طيلة نصف ساعة أو ساعة، ثم أطوف عبر أرجاء البيت والحديقة، أعود إلى مكتبي وأكتب، ثم أغادر الغرفة، أطوف بأرجاء البيت، فالحديقة.. والحقيقة أنني كثير التجوال لحظة الكتابة.

ما علاقتك بباريس؟

دانييل روندو: باريس هي “قريتي”، أبعد عنها مسافة الساعتين، وأحتاج أحيانا مغاردة جحري واللقاء بأصدقائي. وعندما أقول قريتي فذلك يعني أن لي أماكني التي أتردد عليها والمطاعم وأحفادي وأبنائي. وما دمت أعيش وحدي ولا قرية تحيط بي، فقريتي هي باريس.

 لنعد إلى البدايات، ما هو أول كتاب قرأته؟

دانييل روندو: في الحقيقة لا أذكره. فقد كنت أقرأ كثيرا. أقصد عندما كنت طفلا كنت أقرأ الكثير من الكتب. وحين التحقت بقسم السادسة من التعليم الإبتدائي حدث شيء مهم وعجيب؛ كنت بلغت من العمر عشر سنوات. وفتح والدي لي حسابا بإحدى المكتبات، وكنا نسكن مدينة صغيرة هي شارون سير مارن. وكانت المكتبة تسمى “مكتبة الاتحاد الجمهوري” شارع دورفاي. كان الأمر حدثا خاصا واستثنائيا بالنسبة إلى شخص ينتمي إلى ذلك العهد وذلك الوسط. كان الرجل متواضعا. لكن والدي لاحظ أني أحب القراءة، فقام بهذا الفعل، هذه البادرة من دون سابق إنذار. وأذكر أني كنت أعود من الثانوية وأوقف دراجتي الهوائية، ثم أشرع في نقل نظري بين الكتب المعروضة على الواجهة. كان الأدب الفرنسي يمثل حديقة متنوعة. أنقل بصري بين الأسماء، جان جيونو، مالرو، كامو، موران، وسارتر.

ومن الكتب الأولى التي هزت كياني في تلك الفترة كتب جان جيونو. ذلك أني، كما قلت لك، طفل من أبناء منطقة الشامبان حيث يسود الضباب ولا ترى إلا الكروم والغابة.. وفجأة قادني جان جيونو نحو “البروفانس″، نحو شمس “البروفانس″.. ثم جاء ألبير كامو وجعلني أعبر البحر. كنت تلميذا أتابع دراستي بقسم السنة الخامسة وأذكر جيدا كيف وأين كنت أقرأ رواية “الطاعون”، كنا نسكن يومها شارعا عاديا لا يعرف حركة المارة، ويسمى شارع “أناتول فرانس″ “بشارون سير مارن”، وكان الطقس جميلا والشمس تحتل السماء والفصل ربيعا، وكنت اقتعدت مكانا بالنافذة تحت الشمس. والحقيقة فقد كنت أسمع تنفس البحر الذي يتحدث عنه، وكنت أحس حرارة شمس البحر الأبيض المتوسط.. كان الفصل ربيعا، وكنت أحيا..

                                                        عبدالعزيز الجدير ودانييل روندو

وما هي الكتب الأخرى التي هزت كيانك؟

دانييل روندو: في تلك الفترة؟ رواية “البؤساء” التي قرأتها في طبعة كاملة سميكة أهداها لي الوالد، إذ اشتريتها من المكتبة التي فتح بها الوالد حسابا لفائدتي. لون غلافها أزرق، ما زلت أحتفظ بها بمكتبتي. وما زلت أعود إليها أحيانا. وعندما شرعت أكتب كتاب “في سياق الزمن” كنت أفكر في “البؤساء”، وأحاول كتابة بؤساء القرن العشرين وأحكي قصتهم.

ما هي اللحظة الأولى التي حملت فيها القلم وشرعت تكتب، وأحسست أنك ألقيت بنفسك في مسارب الكتابة؟

دانييل روندو: المرة الأولى.. هي التي قلت لك عنها إني كنت ثائرا صغيرا.. ثم قضيت عدة سنوات عاملا بأحد المعامل، وغادرت المعمل رغما عنّي.

 ما هو هذا المعمل؟

دانييل روندو: معمل كان يوجد بضاحية مدينة “نانسي”، “بمالزيفيل” ويطلق عليه “بير مالي” وكنا نصنع خشبا خاصا يستعمل كعوازل كهربائية.. وتم تسريحي من العمل، وفجأة دقت ساعة نهاية التزامنا الجماعي، وتزامن كل ذلك.. وكنت أسكن يومها بضاحية المدينة، بشقة صغيرة. وهكذا قررت الذهاب إلى “نانسي” مشيا على الأقدام، فلم تكن لي سيارة. قطعت “لامورث”، وهناك رأيت طلبة يمارسون رياضة على متن قوارب الكاياك على مياه نهر “المورث”، وكان هؤلاء طلبة بمدرسة المعادن. كان عمري يومها خمسا وعشرين سنة، وها أنذا أنظر إليهم، مع بعض الحنين، وقلت لنفسي، يا صغيري لقد تبخرت مرحلة شبابك. لقد تركتها خلفك، في حضن المعامل “باللورين”. ها أنت لم تقم بممارسة رياضة الكاياك على “المورث”. وتابعت سيري. ها أنا أدخل مدينة “نانسي”.

أمرّ من أمام بائع كتب. لم أقرأ كتابا منذ خمس سنوات. نعم، هي التي قضيتها عاملا.. اشتريت بفرنك واحد الطبعة الأولى، وهي طبعة جميلة، من مجموعة قصصية لبول موران. قال لي البائع “لا قيمة لموران، قيمة الفرنك أرفع منه”. لم يكن أحد يقرأ “موران” خلال تلك الفترة. وهكذا اكتشفت “موران”، ويوم الغد ذهبت إلى مكتبة وهناك تملكتني القشعريرة. اشتريت ثلاثة كتب، واحد لجان جيونو وعنوانه “أنجيلو”، وعدت إلى البيت. ويوم الغد بدأت أكتب. وهكذا كتبت كتابا عن تاريخ الحركة العمالية. طبعا، لست مؤرخا، ولكن الكتابة عن هذه الطبقة مثلت سبيلا لمنح هذا التاريخ نكهة روائية. وقلت لنفسي ها أنت استعدت نفسك.

 ما شعورك وأنت تنهي الكتاب، بعض المتعة، شيء من التحدي؟

دانييل روندو: متعة كاملة. شعرت الشعور ذاته وأنا داخل قسم الوالد أكتب بالمداد البنفسجي على الدفتر وأحكي ما عشته يوم الأحد.

هناك قول لبيل بورووز مفاده أن على الكتابة أن تتغير ما دامت تغيرت الوسيلة، فقد انتقلت الكتابة من الريشة والمحبرة إلى قلم الرصاص فقلم الحبر الجاف فالآلة الكاتبة، ثم زمن الحاسوب.

دانييل روندو: لا أومن بهذا القول. أعتقد أن لنا أدوات "ضاحكا"، وعلى هذه الأدوات أن تتأقلم معنا، وليس علينا نحن أن نتأقلم معها.

هناك من يرى أن الريشة والقلم، والآلة الكاتبة ولوحة مفاتيح الحاسوب أسلحة يواجه بها الكاتب كل أنواع البشاعة..

دانييل روندو: كل هذه الأشياء تعني الأمر ذاته. لم يحدث أبدا أن كتبت باليد، فقد كتبت دائما على الآلة الكاتبة. فقد اشتريت آلة كاتبة صغيرة “ريمنغتون”.. وقد ضللت أضرب عليها سنوات طوال. وكان الصوت الذي يدوّي داخل شقتي هو صوت الآلة، وعلى يمين المكتب كانت توجد سلة المهملات، كنت أبدأ الكتابة على الورقة، ثم بعد تدبيج فقرة أو أكثر أحس أنها لا تعكس الحرارة التي بداخلي فألقي بها في السلة. وعند نهاية النهار تكون قد استقرت بالسلة أكثر من خمس وعشرين ورقة. والآن، لا ألقي بالخمس والعشرين ورقة بالسلة، ولكني أكون أعدت الكتابة خمسا وعشرين مرة.


علاقة قوية تجمع روندو بمدينة طنجة
علاقة قوية تجمع روندو بمدينة طنجة


هل يمنح صوت الآلة هذا طابعا روحيا أو شبيها بذلك للكتابة؟

دانييل روندو: حين بدأت أكتب كنت أستمع إلى الموسيقى وأنا أكتب. كان لي انطباع أن الموسيقى تحفزني على الكتابة. والآن، أكتب مستغرقا في الصمت. وأكتفي بالاستماع إلى موسيقى كلماتي وهي تنبعث على الشاشة. فأنا أبئر اهتمامي على الكلمات وميلادها. كما قلت لك من قبل ليست هناك قواعد، فكل واحد يدبر حاله وشأنه بما لديه من وسائل وأدوات.

الجديد: أشرت من قبل أنك دعيت للالتحاق بفريق جريدة “ليبراسيون” للإشراف على ملحقها الثقافي، ثم دعيت للالتحاق بالحقل الديبلوماسي، سفيرا لبلدك. وأعتقد أن الكتابة هي التي منحتك هذا الشرف..

دانييل روندو: صدقت تماما [ضاحكا]. أقول دائما كنت محظوظا. لقد تم الاتصال بي هاتفيا. وفي الواقع، عندما اتصلت بي جريدة “ليبراسيون” كنت قد كتبت ثلاث مقالات مطولة على صفحات الجريدة ذاتها، وكنت ما أزال أقيم بمدينة “نانسي”. كنت بعثت مقالة عن كاتب يدعى جورج نافيل، وكان كاتبا مجدا، وينتمي إلى البروليتاريا، وهو عامل وصديق الكاتب جيونو. ونشر عددا من الكتب الجميلة والمهمة منها “رمال وطمي”، وهو مجموع مراسلات مع الفيلسوف الأوكراني البالطي برنادر كروتيسول، ثم نشر كتابا يحكي تجاربه “لكل مملكته”. وهو كاتب غلفه النسيان، ولكنه طبعني بميسمه وسحرني، وهو ما حكيته عنه.

وقد كان لهذه المقالة المطولة أثرها في القراء وإدارة الجريدة. وكنت يومها أعيد اكتشاف الموسيقى الكلاسيكية التي أهملتها لعدة سنوات. وقد ذهبت للقاء ليونار برنشتاين بمدينة فيينا. وكتبت عنه ثلاث صفحات، وكان لها تأثير كبير في هذه الجريدة التي كانت ما تزال متياسرة. كانت تعنى كثيرا بموسيقى الروك، وإيدي ميتشال.. وفجأة احتضنت الحديث عن أشياء أخرى، عن برنشتاين، ومالور، وعن فيينا.. وأعتقد أن الأمر كان مهما كذلك بالنسبة إلى القراء.. ومن أجل ذلك نادت عليّ الجريدة. وأعتقد أن السبب ذاته كان وراء النداء عليّ للعمل بالحقل الديبلوماسي. أي أنني كنت أكتب دائما عن السياسة الخارجية، وكتبت عن لبنان، وكتبت عن الدول التي عبرتها، ولذلك تساءل من بيده الأمر: لِمَ لا نُنادي على فلان. وهناك تقليد لدى وزارة الخارجية؛ الكِي دُورْسِي، وهو تعيين كتاب ديبلوماسيين، وعندما اقترح عليّ الالتحاق بوزارة الخارجية تذكرت شاتوبريان وبول موران وكلوديل.

وبيير لوتي.

دانييل روندو: هو كان بحارا.

أقصد أنه كان كاتبا عندما نودي عليه أيضا ليكون عضوا في بعثة ديبلوماسية نحو المغرب، وهي الرحلة التي تمخضت عن كتاب آسر: “في المغرب”.

دانييل روندو: بالفعل هو كاتب، بل كاتب كبير. وكذلك كتابه عن المغرب مدهش، وكتابه الآخر عن اليابان مدهش أيضا. بل يبين أنه كاتب رؤيوي يتنبأ بما سيكون عليه مصير الكوكب الأرضي. هو شخص مدهش.

 ما دمت عنيت بمشكل الهجرة، هناك جانب لم يعن به أحد: سأتحدث عن فرنسا، ولكن الأمر يهمّ كل دول أوروبا. فرنسا احتلت المغرب العربي، ونقلت عشرات الآلاف من المواطنين وجندتهم للدفاع عنها خلال الحربين العالميتين، ثم نقلت عشرات الآلاف من المواطنين كيد عاملة لحاجتها إليهم لشق الطرق واستخراج المعادن من باطن الأرض.. وفي لحظة معينة قالت يكفي.. كيف يبدو لك الأمر من زاوية إنسانية وأخلاقية وفلسفية؟ ألا يقوم على بعض الانكار والتنكر؟

دانييل روندو: أعتقد أن العلاقة بين فرنسا والفرنسيين وأفريقيا علاقات مركبة. فهي تقوم على الشغف والهيام، ومعنى ذلك أن هناك شغفا وهياما بالمغرب، وببعض الدول الأفريقية وتومبوكتو أيضا. أفكر الآن في المكتشفين من الكتّاب ومنهم العسكر. ومن هؤلاء من كان لهم شغف وارتباط بجمعيات إخوانية في المغرب العربي. فقد طبعهم هذا الإسلام الصوفي، وشكل شيئا تملكهم وسكن أرواحهم وظلوا يحملونه معهم في الآن ذاته. وكان هناك فرنسيون جاؤوا لتحصيل المال، وآخرون أنشأوا شركات ودخلوا في علاقات الاستغلال والعمل. هي علاقات معقدة جدا. وأعتقد أن هذه العلاقات كانت أكثر تعقيدا في الجزائر. فقد كانت إلى جانب الاستعمار مستوطنات لفرنسيين وهم أناس فقراء عبروا البحر وصدّقوا كل ما سمعوا عن خيرات البلد. وقد تحدث ألبير كامو عن كل هذه المواضيع بشكل واضح وعميق. ثم وضّح موقفه على مرّ السنوات. ومع مرور الوقت بدأت تأتي الكوارث الكبرى التي تمس بلدينا معا. وقد كان موقفه أن لا نكون ضحايا، ولا جلادين. لن أدخل في تفاصيل هذا الموضوع، فلا وقت لذلك لأنه ينادى عليّ إذ اقترب وقت موعد تحليق الطائرة. ما يجب أن أقوله فقد وجد رجال من ضفتي البحر تصرفوا بكرامة واستحقاق، وعلى الكرامة والاستحقاق المشتركين يجب أن نعتمد.

أذكر أن ميشيل جوبير قال لي ذات حوار في الموضوع ذاته يجب أن لا نخلط بين الزمنين، أن نعيش في الحاضر..

دانييل روندو: بالفعل، ثم إننا نميل إلى محاكمة الماضي وفق مقاييس الحاضر، وبذلك فنحن نرتكب مفارقة تاريخية. وهذا لا يعني أنه لا يجب أن يكون لنا رأي، ويكون لنا حكم على ماضينا ونتأمله ونفكر فيه. ولكن لا يجب أن تحكمنا الأحكام المسبقة، ثم إننا لا يمكن أن نعيد كتابة التاريخ.. الماضي، مضى، انصرم. ذهب كما قال شاطوبريان وهو يتحدث عن الثورة الفرنسية التي أثرت فيه أيما تأثير في جسده، وممتلكاته. قال “ذلك زمن مضى، يجب أن ننظر نحو الأمام، ونتقدم”، وقد قال الشيء ذاته ألبير كامو بطريقة مغايرة.

 أود معرفة رأيك في هذا الكاتب الهام الذي كتب ثلاثية بعنوان: “الطفل” و”الحاصل على شهادة الباكالوريا” و”الثائر”.

دانييل روندو: تقصد جيل فاليس؟ قرأت كتبه، وأحببته كثيرا، ولم أعد إلى قراءة أعماله. قرأت أعماله يوم كان عمري خمس عشرة سنة. قرأته بحماس كبير. بالفعل، هو كاتب مهم، ونصوصه جيدة جدا، وهو صوت استثنائي في حقلنا الأدبي.

وهذه العلاقة مع طنجة، ما نصيب الجذور الأدبية وما حظ الصدفة أيضا في نشأتها؟

دانييل روندو: ليس للصدفة حظ في نشأة العلاقة وامتدادها. جئت إلى طنجة للقاء ببول بولز. وإذا بي أكتشف مدينة طنجة ومحمد شكري.

أعتقد أن حجك لمدن البحر المتوسط يحكمها البحث ذاته.

Thumbnail

دانييل روندو: بالفعل، ويعتقد القراء وبعض الكتاب أني أذهب من مدينة إلى أخرى، ولكنني أذهب من كاتب إلى آخر. ذهبت من بولز وشكري بطنجة، إلى لورنس داريل ونجيب محفوظ وفورستر بالإسكندرية، إلى إسطنبول وكمال يشار؛ وهو من أبطالي الأدبيين. وهو كما تعلم كان صديقي الكبير. وقد طلب مني الأتراك، سنة بعد وفاته، أن أرثيه بمدينة إسطنبول قبل سنة من الآن. وعندما كتبت كتابي “في سياق الزمن”، حملت إليه كتابي وقلت له لقد ساعدتني يوميا على كتابته. وفهم قصدي، لأنه يسميني “الذئب النائم” لأن الكاتب ذئب في حالة نوم.

نالت روايتك الأخيرة “آليات الفوضى” جائزة الأكاديمية الفرنسية، وهي صورة لعالم اليوم، تغوص في الوضع الجيوسياسي، حيث يسود التآمر والاتجار بالمخدرات وبالبشر وبالأسلحة. وتدور أحداثها على أرض عدة دول وفيض من شخصيات.

دانييل روندو: صحيح. وهناك من يحتمل الصدمة في مواجهة العالم، رغم دخول العالم الفوضى منذ 1945 وكارثة هيروشيما وناكازاكي.. وقد لوحظ يومها أن العالم لا يمكن أن يخرج من الفوضى الضاربة أطنابها. وتمثل هيروشيما الفوضى الشاملة، ذلك أنه بعد هذه الجريمة أدركت البشرية أنها فانية. إنها فوضى لها جذور، ليست طارئة. قال لي صديقي بروديل بعد أن سألته في الموضوع إن العالم دخل الفوضى الشاملة مع الحرب العالمية الأولى. ومادمت أشرت إلى الوضع الجيوسياسي أشير إلى أن أصل الفوضى التي تعم العالم الآن هو التدخل الأميركي في العراق. تدخل أسّس لميلاد الفوضى ليس في الشرق الأوسط وحده بل في العالم لخمسين سنة. ثم أضيف إليه التدخل الفرنسي في ليبيا حيث تصرفت فرنسا كأنها أميركا صغرى. ثم هناك فوضى أخرى أردت التعرض لها بالحديث ضمن جغرافية روايتي ومسرحها بعض ضواحي المدن الفرنسية. ومنها باريس. وبالفعل، فقد شرعت في كتابة هذه الرواية سنة 2007، وذلك بعد أن كنت نشرت عدة مقالات بجريدة “لوموند” خاصة بالحديث عما يطلق عليه الآن “الأراضي التي فقدتها الجمهورية”

. ويقصد بذلك كما هو معروف أنه فجأة ببعض الأماكن التي تعرف كثافة سكانية كبيرة بضاحية باريس تراجعت السلطات العمومية شيئا فشيئا تحت ضغط المتاجرين الصغار بالمخدرات. لم تكتف السلطات العمومية بالتراجع بل انسحبت تماما. ومعنى ذلك أن جمهوريتنا الفرنسية أصبحت فاشلة، مغيبة من حيث فرض سلطتها، أي أن الشرطة والعدالة قد غيبا، اختفيا. ولم تعد تعنى بما شكل عظمة فرنسا وهو التعليم. وهكذا انتهى كل شيء. والطبيعة ترفض الفراغ. وعندما ينسحب القانون والتربية فكيف يفلح المجتمع ويحقق كل واحد ما يطمح إليه؟ وما أحكيه في هذه الرواية هو بؤرة الاتصال والتقاطع بين المتاجرين الصغار بالمخدرات من سكان الضواحي الذين تزدهر تجارتهم، فيصبحون مهربين كبارا. وهو ما حدث خلال سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة إذ أصبح هؤلاء هم الممثلون الصغار للحركة الجهادية الفرنسية. وحين يلاحظ هؤلاء المهربون أنهم أصبحوا سادة، في غياب الدولة، يتفقون ويصبحون زعماء.

لقد وظفت سنوات كدحك باعتبارك عاملا.

دانييل روندو: طبعا، ذلك أنني خلال تلك السنوات ربطت علاقات مع عمال جزائريين مسنين، وكنت أقضي معهم وقتا معينا في المساء. إذن فأنا أتفهم وضعهم وأفهمهم. وبالنسبة إلى الديبلوماسي فقد شذبت بعض حماسه حتى يبدو الكتاب موثوقا به. في الكتابة كل كاتب يعتمد على نفسه، يبحث له عن مخرج. ولكل طريقته في الكتابة. وبالنسبة إليّ، أحتاج أمرين: أولا أحتاج تفاصيل دقيقة جدا، أحتاج أن أصف كل شيء ببعض الدقة، أكاد أقول العلمية ومنه المكان

. فعلى هذه العناصر الدقيقة سيركب خيالي لينطلق. وثانيا إذا لم أتوفر على هذه العناصر الدقيقة جدا أشعر أن خيالي أو تخييلي سيسقط في الفراغ وسينحرف. بينما حين أتوفر على عناصر دقيقة أتقدم بشكل جيد ومحايث للواقع.. وأقول لنفسي أنت الآن على صواب. أقدم مثالا على ما أقول، هناك اجتماع مجلس الوزراء بقصر “ماتينيون”، موضوعه غياب الأمن والارهاب، اتصل بي مسؤول عن مؤسسة متخصصة بمحاربة الارهاب في فرنسا وقال لقد شعرت بنوع من الضيق والانزعاج وأنا أقرأ هذا المقطع من الرواية، هل حضرت الاجتماع، وكيف تمكنت من الحضور؟ قلت لم أكن هناك. وكل ما قمت بوصفه كان كما يحدث في الواقع. وهذا ليس أمرا خاصا بي، ولكن بالنسبة إلى الروايات التي تتناول الأحداث اليومية إذا لم يقم الوصف فيها على الدقة فهي تستحق أن يلقى بها في سلة المهملات.

 ولآفة العصر نصيب كبير في روايتك.

دانييل روندو: طبعا، عبور الصحراء ثم عبور البحر. وقد تتحول رحلة عبور البحر إلى رحلة الموت. وعبر الكتاب أردت أن أعرض لهذا الداء الذي يعتبر داء زماننا. ولا أعتبر متشائما، كما قال البعض، بل متفائلا بطبعي. ومن يكون متعقلا، صافي الذهن، ليس متشائما. وصفاء الذهن هو الخطوة الأولى نحو الفعل. وقد كنت أتحدث قبل أشهر مع كاتب أحبه كثيرا، يقيم بمدينة مدريد هو ماريا فارغاس يوسا، وقد قال لي ماذا يستطيع الأدب؟ يستطيع الأدب أن يسائل مجتمعاتنا غير المستقرة. وهو ما أقوم به.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة