هنا في هذا الحوار محاولة متواضعة لتكريم سعدالله ونّوس في مناسبة تكريمه من الحركة المسرحية الدولية التي تجد فيه مؤلفا مسرحيا صاحب نموذج مسرحي لامع، ورؤية متقدمة حول ما يعنيه المسرح، عبرت عنها مسرحياته أولا، ومن ثم انشغالاته بقضايا العلاقة بين المسرح والمجتمع. والكلمة التي سيلقيها سعدالله ونّوس (بمناسبة يوم المسرح) كان قد سبقه إلى إلقائها في يوم المسرح العالمي مؤلفون مسرحيون من طراز أليخاندرو كاسونا، وول سونيكا، جورج شحادة، يوجين يونسكو وجان أنوي، وآخرين.
في بيروت تعرّفتُ إليه، شخصا أميل إلى النحول، لطيف الحضور، كان ذلك قبل عام واحد من وصول دبابات الإسرائيليين إلى مشارف المدينة. وآخر لقاء لي به كان في الأيام الأولى من الحصار. واليوم، ببأس شديد وشجاعة نادرة، وبشغف بالكلمة والكتابة، يواجه سعدالله ونّوس السرطان. خاض معه جولات دفاعا عن حياته، وهو مستمر يصارعه بالشدة نفسها التي دافع فيها، ولا يزال عن أصوات المجتمع في صيغة مسرح جديد، يقف ضد الصوت الواحد.
صوته ظلّ يصلني، من وقت إلى آخر، وكلما سنحت الفرصة، عبر الأسلاك، حزينا، شيئا ما، لكنه معافى فهو لم ينكسر.
أربع سنوات مرّت منذ أن اكتشف سعدالله ونّوس في حياته هذا العدو الجديد الأقل وضوحا بين أعدائه، وخلال هذه الفترة العصيبة أنجز الكاتب أعمالا مسرحية تلوح معها انعطافة مؤثرة في تجربته، نشر منها حتى الآن ثلاث مسرحيات كبيرة هي منمنمات تاريخية، ملحمة السراب، وطقوس التحوّل والإشارات، ومسرحيتين قصيرتين هما يوم من زماننا، وأحلام شقية.
إنها أعمال رائعة قلت له ذلك، فرد مجاملا بتواضع، وسأل إن كان كل شيء بالنسبة إليّ على ما يرام في لندن؟ تقريبا، قلت، وسألته إن كان الربيع في دمشق دافئا هذا العام. فقال إنه ربيع جميل.
قرأتُ كلمتك في يوم المسرح العالمي ركّزت فيها على الحوار وأهميته المتزايدة داخل المجتمع، وبين المجتمعات، حوار الأفراد وحوار ناس الشارع، وحوار المثقفين، حوار الأفكار، والحوار بين عناصر الاختلاف بين أطراف المجتمع، وفي العالم. إنك تنظر إلى كل هذا بصفته ركنا أساسيا من أركان المسرح. هل تظن أن في العالم العربي اليوم إمكانا حقيقيا لاستمرار المسرح.
سعدالله ونوس: للمسألة جانبان. في الجانب الأول هناك الوضع الداخلي في كل مجتمع على حدة. وأنا لن أراوغ وأقول إنني لا أقصد مجتمعي ومجتمعاتنا العربية، بل أقصد هذه المجتمعات بدرجة ما. في داخل المجتمع تبدو أقنية الحوار مسدودة، وظهور الجماعات المتطرفة التي تحاول أن تكون وكيل الله على الأرض، وأن تعبر عن رأيها بالقنبلة والرصاصة، والأنظمة التي واجهت وتواجه هذه التجمعات والجماعات أيضا بالسجن والرصاصات وتكميم الأفواه، أقول في كل هذا المشهد إن هناك حاجة ملحة لأن يبدأ الحوار، وما لم يبدأ الحوار فإن الطريق ستكون مسدودة وإننا نسير نحو أشكال من الحرب الأهلية التي ستعصف بنا جميعا. إذن، نحن في حاجة ملحة إلى الحوار الاجتماعي.
لعل الغياب الطويل لممارسة الديمقراطية والحوار جعل من استعادة هذا التقليد مسألة عسيرة تحتاج إلى مران وتدريب وكثير من الصبر والعقلانية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تلاحظ أن هناك غيابا للحوار على المستوى العالمي. فالغرب الذي شنف آذان البشرية طوال سنوات الحرب الباردة، وخلال عقد الثمانينات من القرن الماضي الذي لاحت فيه البوادر الفعلية لانهيار الاتحاد السوفييتي، هذا الغرب الذي أهلكنا تغنيه بقيم الديمقراطية والتعددية والحوار، وتبشير المجتمعات المتنوعة والمتعددة بازدهار قريب وممكن، هذا الغرب الذي أفرط في الحديث عن حقوق الإنسان والعدالة بين الدول، وأفرط في تقديم صورته كحل نموذجي لمشاكل التخلف والاستبداد والحاجة والجوع والفقر، هذا الغرب، بعد أن انتصر، وبدءا من العام 1990، أي منذ أزمة الخليج، تنكر لكل هذا القاموس الذي استخدمه تكتيكيا خلال حربه الباردة للانتصار على المعسكر الاشتراكي، ونسي دفاعه الحار عن حقوق الإنسان، ونسي حرصه الشديد على الديمقراطية، وعاد يكيّف الأمور في العالم وفق مصالحه، فحيث يجد مصالحه مؤمَّنة لا يستنكر أبشع أشكال الدكتاتورية، ولا يبالي بحقوق الإنسان، وبما تعانيه مجتمعات الاستبداد وانغلاق الحوار، أكثر من ذلك، الغرب أيضا أغلق الحوار، وأصبحت أداته في التعامل مع العالم أداة العنف والتهديد.
أقول في كل هذا المشهد إن هناك حاجة ملحة لأن يبدأ الحوار، وما لم يبدأ الحوار فإن الطريق ستكون مسدودة وإننا نسير نحو أشكال من الحرب الأهلية التي ستعصف بنا جميعا
أستطيع أن أقول إن العالم شاهد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ظهور توتاليتارية هي أبشع من كل توتاليتارية عرفها التاريخ منذ فجر البشرية وحتى اليوم. توتاليتارية يقبض عليها حفنة ممن يسمون سادة العالم الجدد، وهم أثرياؤه الكبار من رئيس شبكة الإنترنت إلى سواه من ملوك البورصة، مجموعة من السادة الذين لا يملكون أيّ تقاليد، ولا تشغلهم أيّ وساوس حول مستقبل الإنسانية أو مصير العالم، وهم خليط من ممارسات مافيوية على ألعاب بنكنوتية، ولا يستندون إلى أي قاعدة من ثقافة أو من قيم؛ هؤلاء الذين يسيطرون على الإعلام والأحداث، وبالتالي على مصير البشر، هم نظام توتاليتاري لا توجد فيه فسحة لا للفرد ولا لشعوب برمتها.
وبما أن هذه الطغمة ليس لديها أي هم إلا الربح الفوري والسريع على حساب البشر والطبيعة، فإنها تقامر بمستقبل الإنسانية والكرة الأرضية على حدّ سواء.
وفي هذا الواقع التوتاليتاري المدجج بالسلاح والمال يُلغى الحوار، وتُهمش الثقافة، ويُعمم الإعلام المبني على التلقين والسطحية وتعميم التفاهة.
وحين أحلم بأن يوقظ المسرح قابليات الحوار على مستوى مجتمعي، وعلى مستوى العالم، فإنني أعلم أنني أماثل الدونكيشوت في حماسته وأوهامه على حدّ سواء. لكنني أعتقد أننا محكومون بأن نقدم شهادتنا، وبأن نأمل أن الواقع الراهن ليس واقعا نهائيا، وأنه سيكون في وسع ذوي النوايا الطيبة من مثقفين وفنانين أن يوقفوا ذات يوم هذا المونولوج التوتاليتاري السائد في زمن النظام العالمي الجديد، وأن يبدأوا بالاحتفال والحوار معا.
دشنت حرب الخليج الثانية حقبة جديدة من علاقة المثقف العربي بالسياسي حاكما ومعارضا، وقبل المثقفون العرب القسمة على خطين متنازعين لأحدهما غلبة بليغة ورجحان في كفة حضوره، ولكن الجسم الثقافي العربي، في كلا الحالتين لم يتمكن من إنتاج وضعية مستقلة للمثقف تمكنه من تقديم موقف تاريخي بصدد الصراع وقضاياه، تُرى لِمَ حصل ذلك للمثقف، ألكونه لم يتحرك، منذ بداية هذا القرن في أطر ومؤسسات أهلية مستقلة، وبالتالي لم يملك مصيره بالأمس حتى يكون في وسعه اليوم أن يستقل بموقف ثالث خارج الثنائية الظالمة للصراع بين صفين من القوى المناقضة لوجوده وأحلامه؟
سعدالله ونوس: نعم، المثقف العربي لم يستطع الاستقلال بموقفه منذ البداية، ولربما لم يجد هذا المثقف في فترة من الفترات أن هناك خطرا كامنا في تلك الوضعية التاريخية التي حكمت علاقته بالسياسي، فهو لم يحدد بكيفية عقلانية وبعد تأمل عميق في واقعه وفي دوره كمثقف، علاقته بالسياسي، بل ترك هذه العلاقة سائبة رجراجة خاضعة للظروف.
وفي فترات كان المثقف يحس أن موقعه الطبيعي هو أن يقف خلف السياسي، وفي فترات كان يحس بالصَّغار أمام السياسي، وبالتالي فإنه كان ينظر إلى دوره كداعية، أو كمعلق بليغ على ممارسات السياسي، لأن المثقفين لم يهتموا مبكرا بتحديد هذه العلاقة وكشف أخطارها، ولأنهم، وبسبب استعجال نافد الصبر لإحراز التقدم، تعاونوا مع السلطات الانقلابية ودافعوا عنها، وراهنوا على مقدراتها لإنجاز الأهداف التي يحلمون بها من تحديث وعدالة. وكل هذا جعلهم يجدون أنفسهم، في النهاية، تحت رحمة السياسي، ومضطرين للقبول بالأشكال التنظيمية التي يعرضها عليهم أو يرتبها لهم. وهي، غالبا، تنظيمات عمُلها الأساسي أن تدافع عن النظام ضد الكاتب، وأن تحمي النظام من الكاتب، وأن تصون حرية التعبير للنظام في مواجهة الكاتب.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا تجاوزنا فترة الاستنارة التي عرفتها البلاد العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن الحالي، أي فترة الطهطاوي والكواكبي ومحمد عبده وفرح أنطون وعلي عبدالرازق وسلامة موسى وطه حسين وسواهم ولا يقلل من استنارة هذه الفترة وليبراليتها إن لم يكن يؤكدها ما دار من سجال حول كتابيْ “في الشعر الجاهلي” لطه حسين، و”الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبدالرازق. إذا تجاوزنا فترة الاستنارة هذه، فإن المثقفين العرب في ظلال الدولة الوطنية خضعوا، خصوصا منذ السبعينات، لأبشع أشكال الاضطهاد والتهميش والضغط. ثمة أنظمة استخدمت ذهب المُعز، وأخرى استخدمت سيفه، وجميعها اتفق على أن المثقف مشاغب ينبغي ترويضه أو التخلص منه. ولعل أكبر شريحة عرفتها السجون السياسية هي شريحة المثقفين.
هذان العاملان المتداخلان هما اللذان أديا إلى عجز المثقفين عن إيجاد صيغة لتشكيل جبهة مستقلة تحمي الثقافة وحريتها، وتعمق الصلة بين المثقف وشعبه، وتواجه بجرأة وبصوت جماعي له رجع مدوٍّ يتموّج من المحيط إلى الخليج هذه السلطات اللاشرعية التي دمّرت مجتمعاتها وبددت، وربما إلى زمن طويل، فرصتها في دخول العصر الحديث، أو إلى إحراز ما كنا نحلم به من تقدم وحداثة وعدالة.
لكن المثقف العربي الحديث، أو المتطلع إلى الحداثة عبر مرارا عن عدم استعداده لقبول الاختلاف، بل إنه ذهب في بعض الحالات، كما نجد في مصر والجزائر، إلى مساندة السياسي الحاكم الذي يخوض معركة دامية مع قطاع من الناس وممثليهم من الإسلاميين، وهذه سابقة مضادة للفكر، ومضادة للحوار، وانزياح عن الموقف من قضية الحرية، وتأكيد على عدم نضج المثقف الحداثوي في موقفه من الصراع الاجتماعي؟
سعدالله ونوس: يجب أن نكون صريحين. إن هذه السنوات الطويلة، حوالي خمسة عقود، وفي بعض البلدان العربية أكثر من ذلك، منذ نشوء الدولة ربما، هذه العقود من العيش في ظل الاستبداد، وعدم ممارسة الديمقراطية إلا عبر الحلم والكتابة الوجدانية، كل هذا لا بد أن يترك نوعا من الوشم حتى على المثقف ذاته، بحيث يصبح هو الآخر، شاء أم أبى، مستبدا صغيرا يضيق بالرأي الآخر، ويضيق بالحوار، ويضخم أناه كتعويض صبياني عن الشعور بالعقم وانعدام الفاعلية.
نعم نحن المثقفين العرب نحتاج، كشعوبنا تماما، إلى فترة مران نتدرب فيها على ممارسة الديمقراطية وقبول التعددية واعتماد الحوار سبيلا للوصول إلى ما هو صحيح، وإلى ما هو قادر على إغنائنا جميعا.
وإذا كان هذا المران لا يستطيع أن يقوم به شعب إلا إذا أعطي الديمقراطية فعلا، ومارس حقه في التعبير، فإن المثقفين، بحكم وعيهم وطليعيتهم، ينبغي لهم أن يقوموا بهذا المران حتى قبل أن تتحقق الديمقراطية في مجتمعاتهم. وأعتقد أن هذا المران يمكن أن يساعد على نشر وعي بأهمية الديمقراطية، ويمكن أن يكون شكلا من أشكال النضال من أجلها.
هل تظن أن المسرح (بما هو أرض أصوات في مواجهة الصوت الواحد) في وضعيته الراهنة في العالم العربي يمكن له أن يلعب، في هذا السياق، دورا مؤثرا؟
سعد الله ونوس: قد أبدو مبالغا بعض الشيء في الدور الذي أعطيه للمسرح بخاصة، وللثقافة بصفة عامة، ولا سيما في فترة نعرف كلنا أن الثقافة ليست مزدهرة فيها، بل هي تعاني من أزمة التهميش والإهمال، لكن مع إفلاس الأحزاب السياسية التقليدية، ومع إفلاس العمل السياسي بأشكاله المعهودة، ومع غياب أفق عالمي لإمكان الثورة، فأعتقد أن الثقافة هي الأرضية الأساسية التي ستقوم عليها المواجهة بين ما سميته توتاليتارية بلا قيم وبلا مستقبل، وبين منظومة من القيم تحفظ للإنسان إنسانيته وتقترح عليه إمكانات إيجابية لبناء مستقبله ومستقبل البشرية كلها.
نعم، إن الثقافة، الآن، قادرة على مثل هذه المواجهة، وعليها أن تعمق نقدها لصور الظلام التي تسود العالم الراهن، وهي التي يمكن أن تمهد، عبر النقد والإبداع، الأرض لبلورة حركات سياسية جديدة كل الجدة يمكنها أن تبتكر وتبدع، ولأن الثقافة تستوعب استيعابا عميقا آليات الرأسمالية العالمية، فإنها ستجد الصيغ الفعّالة لكفاح إنساني بصيغ جديدة على سبيل التغيير.
هل ترى معي أن العالم العربي يتجه إلى الأخذ بصورة المثقف الفردي الأناني المتواري (رفعا للمسؤولية الاجتماعية عن نفسه) وراء أقنعة الحداثة وما بعد الحداثة، يساعده على ذلك إغراء الصورة المنتشرة عبر وسائل الاتصال الحديثة والقادرة على الوصول إلى كل زاوية من العالم مهما صغرت. هل تظن أن هذه الصورة للمثقف يمكن لها أن تتفشى بسهولة في عالمنا العربي بفعل إغراء فكرة تسليع الثقافة؟
سعد الله ونوس: بلى، هذا ممكن جدا. إنها خطورة قائمة في ظل التطورات الراهنة في العالم، فهذه الثقافات التي تسلع وتبث عبر أدوات الاتصال العصرية جدا، يمكن أن يكون لها مريدون ومراكز اتصال داخل المنطقة العربية، وفي كل منطقة في العالم. لكن ينبغي ألّا ننسى أن هناك وعيا عاليا.
نعرف بين المثقفين المثقف التقني، لكن، بالمقابل، هناك المثقف العضوي المنخرط في مجتمعه، الذي يملك وعيا تاريخيا بواقعه وواقع العالم من حوله. وواجهت هذه المسألة، وبنوع من المخاطرة، في مسرحية “منمنمات تاريخية”، حيث ناقشت موقف علامة هو ابن خلدون في مواجهة الغزو التتري، واعتبرت موقفه في تلك الفترة، وبإزاء هذا الحدث بالذات، موقفا يمكن أن يتخذه مثقف تقني يتوارى كما تقول خلف مقولات العلم للعلم، وبغية العلم هي الوصول إلى الحقيقة، وأن مهمة العالم هي البحث، ولا شيء غير البحث، وأن خلط المعرفة بالشؤون المجتمعية أدلجة تفسد النقاء العرقي للمعرفة. وكأن المعرفة مطلوبة بذاتها ولذاتها. وهذا ترف لا تحتمله مجتمعات تبحث عن كسرة خبز وكسرة حرية.
أعتقد أننا محكومون بأن نقدم شهادتنا، وبأن نأمل أن الواقع الراهن ليس واقعا نهائيا، وأنه سيكون في وسع ذوي النوايا الطيبة من مثقفين وفنانين أن يوقفوا ذات يوم هذا المونولوج التوتاليتاري السائد
بالنسبة إلى أنانية المثقف، أنا معك. في الشروط الراهنة لا نستطيع أن نأمل كثيرا من مثقفين فرديين وأنانيين لا طاقة لهم على احتمال فكرة الحوار. وحاولت في إجابة عن سؤال سابق أن أجد لهم عذرا، وحاولت أن أعلل الأسباب التي أدت بهم إلى مثل هذا المصير. لكن هذا لا يمنع أننا غدونا في قاع هو من العمق والانحطاط بحيث يفرض علينا أن نغالب ونتغلب على عيوبنا الذاتية، وأن نحاول، ولو في البداية، أن نوجد ما يشبه الكومونات الثقافية، كومونات تتألف بمبادرات حرّة ومستقلة عن كلّ نظام أو منظمة، وتشرع في التدرب على قيم التكافل والتعاون والتحاور وقبول الاختلاف، والبحث عن صيغ مبتكرة لإضفاء المزيد من الفاعلية على العمل الثقافي.
في فترة لاحقة، من يدري، ربما تنجح هذه الكومونات المقترحة، وتتلاقى وتولد تلك الجبهة الثقافية المسؤولة التي نتحدث عنها.
لو كان من رسالة ستكتبها وترسلها إلى المثقفين والمبدعين العرب المهاجرين والمنفيين إلى أوروبا، فماذا تقول لهم في هذه الرسالة، خلال هذه البرهة الزمنية الفادحة في تعبيراتها؟
سعد الله ونوس: على المثقف، ومهما كانت الظروف شاقة أو غير مواتية، أن يكون جذريا، وأن يزداد في هذا الزمن المظلم جذرية. ينبغي أن يكون جذريا في وعي هذا الغرب الذي لا نفتأ نشكو منه، لا نفتأ نتوجع تحت ضرباته. ومع هذا ليس بيننا إلا قلة حاولت أن تدرس هذا الغرب، وأن تفهم تطوره التاريخي، وتعدد أطواره وبنياته. ينبغي أيضا أن يكون جذريا في وعي ذاته، أي في فهم مجتمعه من دون حماسات بلاغية، ومن دون ادّعاءات جوفاء، عليه أن يكون جذريا في معرفة الخلل والفساد في تاريخه وفي راهنه أيضا. وبالتالي عليه أن يكون جذريا في موقفه النقدي من الآخر ومن نفسه، أي من تاريخه ومجتمعه. ومن نافلة القول أن جذرية الموقف النقدي هذه تنسحب على الأوهام والأنظمة والخطابة والبلاغة والتلفيق والانتهازية الثقافية.
وإذا لم تكن هناك آمال كبيرة أمامنا، فليكن لنا، على الأقل، فضيلة إننا كنا مثقفين جذريين نزهاء، وإننا فعلنا ما نستطيع فعله.
ما الأكثر استدعاء للمفارقات لديك عندما تنظر بعيدا نحو هذا الوجود الثقافي العربي المهاجر والمنفي، وهو مسلوخ مكانيا، على الأقل، عن الجسم الأكبر، وما الذي يتراءى لك من فرق بين هجرة مطالع القرن إلى الأميركتين، وهجرة العقدين الأخيرين؟
سعد الله ونوس: المفارقة الأساسية أن المهاجرين الأوائل كانوا يذهبون كتلامذة جادين وكوطنيين ينوؤون تحت عبء الوطن وفي سبيل تحريره والنهوض به، وكانوا في هجرتهم منقبين باحثين لا يصيبهم كلل أو ملل عن الإكسير الذي يمكن أن يعودوا به ليحرروا بلادهم ويحققوا لها النهوض والرفعة. ولا أظنني في هذا السياق في حاجة إلى ذكر الأمثلة وتعداد الأسماء.
أما في الوقت الراهن، فإن معظم المثقفين الذين يهاجرون، إنما يفعلون فرارا من العسف الذي يتعرضون له في أوطانهم، ولهذا فهم كالأوائل ينوؤون تحت ثقل أوطانهم وهم يهاجرون، لكن ليس بمعنى الأمل والتفاؤل والوعد بالتحرير والتغيير، وإنما بمعنى المرارة والإحباط واليأس.
مسرحيتك سهرة مع أبي خليل القباني التي كتبت وعرضت على المسرح في النصف الأول من السبعينات جاءت بعد منع عرض “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” بسنوات قليلة، هل يمكن أن نتخيل أن شخصية القباني، في مستوى من حضورها، كانت شخصية سعد الله ونوس نفسه وما جرى لمسرحه من صدام مع السلطة؟
سعد الله ونوس: بشكل ما نعم، لكن من دون أن أختلس من القباني خصوصيته، ومن دون أن أحوّله إلى مجرّد قناع أختفي وراءه. لأن ما عاناه القباني كان فاتحة المحن التي سيعاني منها العشرات من الأدباء والفنانين بعدئذ. وكانت للقباني ريادتان؛ ريادة في إنشاء مسرح في دمشق، وريادة في تحمّل شراسة وعداء الأوساط الرجعية المتزمتة، المناهضة لكل فكر نهضوي، ولكل تجربة ثقافية تقدمية.
الحدث المركزي في مسرحيتك الجديدة “منمنمات تاريخية”، هو حصار دمشق وتدميرها على يدي تيمورلنك، لقد شعرتُ خلال القراءة بحضور قوي للحدث المعاصر المتمثل بحصار بيروت على أيدي الإسرائيليين، وعشت أنت معنا فصلا منه. إلى أيّ مدى تحضر بيروت المحاصرة وراء دمشق المحاصرة وإلى أيّ مدى يمكن اعتبار هذا العمل إنذارا موجها نحو المستقبل؟
سعد الله ونوس: لا شك أن بيروت 1982 حاضرة في “المنمنمات”، ولا شك أن هناك محاولة لتقديم موقف نقدي حاد من التاريخ ومن الراهن. وهذا الموقف النقدي لا يعني مجرد الهجاء، وإنما هو بالضبط محاولة لدعوة القارئ والمتفرج إلى تأمل مصيره ووقائع تاريخه غابرا وحاضرا، كي يبلور -وهذا ما آمله- على الأقل وعيا يتيح له أن يتفادى المزيد من الحصارات والهزائم، والمزيد من الانهيارات.