المطالبة بتحرير فلسطين = معاداة للسامية
في سبعينات القرن الماضي، تضافرت جهود العرب لإدانة الصهيونية عالميا، ووجدت السند لدى دول المعسكر الشرقي وبعض دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية فضلا عن الدول الإسلامية لفرض القرار 3379 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 نوفمبر 1975، وكان قرارا يعتبر أن “الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والميز العنصري، ويطالب دول العالم بمقاومة الأيديولوجيا الصهيونية التي تشكل خطرًا على الأمن والسلم العالميين”.
ولكن مع تفكك الصف العربي عقب غزو الكويت وإعلان أميركا الحربَ على العراق، وجدت إسرائيل نفسها في موقف قوة، فجعلت إلغاء ذلك القرار شرطًا لمشاركتها في مؤتمر مدريد عام 1991، الداعي إلى إحياء عملية السلام. وتحت ضغط جورج بوش، محرر الكويت، خضعت الجمعية العامة لمطلبها، وتمّ الإلغاء بموجب القرار 46/86 الصادر بتاريخ 16 ديسمبر 1991.
غير أن إسرائيل لم تقنع بذلك، فقد سعت عبر لوبياتها المبثوثة في مواقع القرار بالعواصم الكبرى إلى خنق كل الأصوات التي تعارض سياستها في ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وتندد بالصهيونية كمشروع عنصري بغيض ينكر على الفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم وحقهم في العيش كسائر البشر.
ولما كانت معاداة السامية جريمة يعاقب عليها القانون في شتى البلدان الغربية، عملت تلك اللوبيات شيئا فشيئا على إخراس الأصوات المناهضة للصهيونية عبر نخب سياسية وثقافية ترى في معاداة الصهيونية معاداة للسامية ينبغي تجريمها هي أيضا ومقاضاة أصحابها، بل صارت حتى مناصرة الفلسطينيين مدعاة لتلك التهمة. رأينا ذلك مع مانويل فالس، رئيس الحكومة الأسبق، وكان يرى في معاداة الصهيونية قناعا يتخفّى وراءه معادو السامية، ورأيناه مع نواب في البرلمان قدموا مشروعا لتجريمها، ووقفنا عليه قبل ذلك مع الرئيس إمانويل ماكرون خلال استقباله نتنياهو عام 2017. وقد أثارت تلك المواقف معارضة شديدة في الأوساط الفرنسية،
ولكن الاعتراض الأشد جاء من بعض اليهود أنفسهم. فقد كتب المؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند، معلقا على خطاب ماكرون بمناسبة إحياء ذكرى حملة “فال ديف” التي استهدفت اليهود عام 1942 “أثنيت على عزمكم مقاومة العنصرية حيثما ما كانت، والدفاع عن الجالية اليهودية المقيمة في فرنسا، ولكني توقفت عن فهم ما تقولون حين صرحتم ‘معاداة الصهيونية هي شكل أعيد ابتكارُه لمعادة السامية’.
هل هذا التصريح غايته مجاملة ضيفكم، أم هو بكل بساطة دليل على جهل سياسي؟ هل أنّ طالب الفلسفة ومساعد بول ريكور لم يقرأ من الكتب إلا القليل حتى يجهل أن عددا من اليهود، أو المنحدرين منهم يتصدون باستمرار للصهيونية دون أن يكونوا معادين للسامية؟ وأقصد هنا الحاخامات القدامى، وموقف جانب من اليهودية الأرثودوكسية المعاصرة”.
وراح يذكّره بكثير من الشخصيات اليهودية أمثال ماريك إيلمان الناجي من معتقل وارسو، ومجموعة مانوشيان التي كانت من بين من قاوم النازية، إضافة إلى ثلة من كبار المؤرخين وعلماء الاجتماع اليهود أمثال بيير فيدال ناكي وماكسيم رودنسون وإريك هوبزباوم وإدغار موران، الذين تمثل كتاباتهم إنارة للحق الذي يعلو ولا يعلى عليه.
وأضاف “بناء على كونكم اشتغلتم في بنك روتشيلد، أستحضر لكم قولة لناثان روتشيلد، أول رئيس لاتحاد كنائس اليهود في بريطانيا، وأول يهودي تمّ تعيينه لوردا في المملكة المتحدة، قبل أن يُعين محافظا لبنكها المركزي. في رسالة وجهها إلى تيودور هرتزل عام 1903، كتب يقول ‘أقولها بمنتهى الصراحة. أنا أرتجف لفكرة تأسيس مستوطنة يهودية بأتمّ ما في المستوطنة من معنى. مستوطنة كهذه سوف تصبح غيتو، مع كل سلبيات الغيتو. دولة يهودية صغيرة، بل صغيرة جدا، متعبّدة وليست ليبرالية، تطرد المسيحي والأجنبي’. قد يكون روتشليد أخطأ نبوءته، ولكن الثابت أنه لم يكن معاديا للسامية”.
ومضى شلومو صاند يقدم للرئيس ماكرون في مقالته تلك تعريفًا لمفهوم الصهيونية، مبينا أنها لا تعني اليهودية، بل هي ثورة راديكالية عليها. ومذكرا بأن اليهود الأتقياء كان لهم توق كبير إلى أرضهم المقدسة، لا سيما أورشليم، ولكنهم التزموا بالتعاليم التلمودية التي تأمرهم بألا يهاجروا جمْعًا قبل مجيء الماشيح المخلِّص، لأن الأرض ليست ملكا لليهود بل لله. والله أعطى، والله أخذ، وعندما يشاء، سوف يرسل المخلّص ليعيدها.
ولكن عندما ظهرت الصهيونية، خلعت الخالق القدير من عرشه لتُجلس عليه ناشطا آدميا. وتساءل المؤرخ الإسرائيلي ما إذا كان تأسيس دولة يهودية على أرضٍ أغلبُ سكانها عرب مسلمون ومسيحيون إلى جانب أقلية يهودية فكرةً مقبولة أخلاقيا. وذكّر بالمعطيات الديموغرافية التي تأسست فيها إسرائيل عام 1948، حيث كان في فلسطين ستمئة وخمسون ألف يهودي، ومليون وثلاثمئة ألف من العرب المسلمين والمسيحيين، تحول نصفهم إلى لاجئين، قائلا إن طفلا ولد نتيجة اغتصاب من حقه أن يعيش، ولكن ماذا يحدث إذا سار ذلك الطفل على خطى أبيه؟
وفضح صاند القوانين التي تؤكد أن إسرائيل ليست ملكا للإسرائيليين، بل ليهود العالم كافة، حتى أولئك الذين لا يرضون العيش فيها. فهي “ملك مثلا لبرنار هنري ليفي وألان فينكلكراوت أكثر من طلبتي الفلسطينيين الذين يتكلمون العبرية أحيانا أحسن مني. بل إنّ ثمة مساعيَ لتهجير الإسرائيليين العرب، تقدم بها وزراء في حكومة نتنياهو دون أن يعترض عليهم أحد، أو يقاضيهم أحد”.
وبعد أن قدم للرئيس الفرنسي شرحا ضافيا عن الوضع في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسياسة الميز العنصري التي ينتهجها الصهاينة، والقتل والتفتيش والاستيطان، ختم بقوله “ولما كنت متحدّرا من يهود عانوا كثيرا من التمييز العنصري والعقدي، فأنا لا أريد العيش في بلد يعرّف نفسه بالعبري، ليجعل منّي مواطنا ذا امتيازات. فهل أنا في رأيكم، يا سيادة الرئيس، معادٍ للسامية؟”.
إن فرنسا، التي تقف في الظاهر مع القضية الفلسطينية، كانت صوّتت ضدّ قرار الجمعية العامة آنف الذكر، وقادتُها منذ فرنسوا ميتران يحابون الجانب الإسرائيلي، وفي الأقل لا يريدون الوقوف بجدّ ضد سياسته، فالمعروف مثلا أن شبانا يهودا فرنسيين، يؤدون واجبهم العسكري في إسرائيل، ويجندون لقتل الفلسطينيين، دون أن تلاحقهم السلطات الفرنسية كما تلاحق شباب العرب الملتحقين بجبهات القتال.
وماكرون لم يشذّ عن القاعدة، فبعد خطابه المذكور أعلاه، عاد ليؤكد يوم 20 فبراير 2019، خلال العشاء السنوي الذي يقيمه “المجلس الممثل للمؤسسات اليهودية في فرنسا” (CRIF) قائلا إن “معاداة الصهيونية هي شكل من الأشكال الحديثة لمعاداة السامية”، واقترح تضمينها في التعريف القانوني لمعاداة السامية. ما أثار غضب “حركة مناهضة العنصرية، ومن أجل الصداقة بين الشعوب” (MRAP)، إذ صرحت في بيان لها “باسم الصهيونية، تبرر تيارات سياسية سياسة الميز العنصري التي تَضمَّنها القانون الأساس لدولة إسرائيل عام 2018.
إن نقد السياسة الإسرائيلية التي تمارس باسم الصهيونية، وإدانة احتلال الأراضي الفلسطينية واستيطانها، والمطالبة بتطبيق العقوبات أمام رفض السلطات الإسرائيلية احترام القانون الدولي ليس من معاداة السامية في شيء”. وأضاف البيان أن الخلط بين نقد سياسة الحكومات الإسرائيلية وبين العنصرية فيه مسّ بحرية التعبير السياسي، قد يؤدي إلى عكس المقاومة النزيهة لمعاداة السامية. وعبّرت الحركة عن وقوفها ضد أيّ مشروع قانون قد ينتج عنه منع أيّ نقد تجاه إسرائيل، ومنح هذا البلد وضعا متميزا على الصعيد الدولي، لأن ذلك في رأيها سوف يغذي معاداة السامية بدل مقاومتها.
أما المحامي ميشيل توبيانا، الرئيس الأسبق لرابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، فقد لاحظ الفرق في التعامل مع طرفي النزاع، والكيل بمكيالين، فبينما يفكر بعضهم في سن قانون يجرّم معاداة الصهيونية، لا أحد يفكر في تجريم من ينكر على الفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم بل ينكر حتى وجودهم، بمن فيهم ممثلو الشعب في التمثيليات الوطنية.
وفي رأيه أن المسألة الوحيدة الجديرة بالتنويه هي مسألة الحق، حق إسرائيل في الوجود، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته. ويختم مقالته بقوله “كلا، نقد السياسة الإسرائيلية، والمطالبة بتطبيق العقوبات أمام الرفض الدائم للسلطات الإسرائيلية باحترام الحق الدولي، وإلزام الجانب الإسرائيلي بألا تكون المنتوجات التي تصل إلى موائدنا ومحلاتنا التجارية صادرة من المستوطنات، ومحاولة محاكمة الجنرالات الإسرائيليين المتهمين بجرائم حرب، وإدانة الميز الذي يتعرض إليه رجال ونساء داخل إسرائيل لكونهم غير يهود، كل ذلك لا علاقة له بمعاداة السامية، بل هو تأكيد على وجود إنسانية واحدة تخضع لنفس القواعد”.
كل تلك المواقف تؤكد ما ذهبت إليه الفيلسوفة الأميركية جوديث باتلر من جامعة بركلي، حين كتبت عام 2014 أن إسرائيل لا علاقة لها بالديانة اليهودية، فما هي إلا مشروع كولونيالي منذ بدء التنظير للصهيونية. وفي رأيها أن المستوطنين الذين يستقرون في الضفة الغربية هم على صورة الصهيونية: عنصرية، عنف، توسع. وتستشهد باتلر بإيلان بابّي في كتابه “التصفية العرقية في فلسطين” حين كتب يقول “إن الصهيونية لم تنخرط قط في رغبة تعايش، هي مشروع منهجي لأجل سرقة منتظمة للأراضي والموارد الفلسطينية، مع طرد السكان الموجودين وصولا إلى الاستيلاء على أراض تحدد على أسس توارتية”.
وبرغم يهوديتها، تدعو باتلر إلى إزالة إسرائيل وإقامة دولة واحدة تتعايش فيها الأديان الثلاثة، وتقول إنها مع عودة الفلسطينيين ووجوب اعتراف إسرائيل بجرائمها تجاههم، وإنها ضدّ الأبارتيد، والجدار العازل، وثقافة الكراهية والهيمنة والتمييز الإثني، ولكنها تعرف أن ذلك الحل لن يأتي أبدا لأن ذلك ليس غاية الصهيونية، وهو ما يفسر كره الأكثرية لإسرائيل. وتضيف باتلر أنها سوف تتراجع عن موقفها السياسي يوم تقوم الدولة الفلسطينية أو دولة متعددة الأديان وهذا ما قد لا يحصل أبدا، أما الآن فإنها تقف مع المحرومين والمضطهَدين، وإذا لم يفهم بعضهم ذلك ويعتبرونه معاداة للسامية، فليكن.
وصفوة القول إن مشروع تجريم معاداة الصهيونية أسوة بمعاداة السامية ليس سوى محاولة لترهيب كل من ينتقد سياسة إسرائيل، كما فعل اللوبي اليهودي مع الفرنسي باسكال بونيفاس، ثم للتغطية على جرائم الكيان الصهيوني. فالمشكل مع هذا الكيان ليس استيطان فلسطين فحسب، وإنما أيضا وجود مجتمع رأسمالي مجيَّش وضع نظاما تراتبيا لسكانه وفق اعتبارات عرقية ودينية، ما جعل أغلب المحللين، حتى الإسرائيليين منهم، يحذرون من سياسته العنصرية والتوسعية التي تهدد الأمن والسلم في العالم.
في مقال بجريدة لوموند الفرنسية، لم يتردد زيف شتيرنيل أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية بالقدس وأحد مؤسسي حركة السلام الآن عن القول “إن إسرائيل خلقت عنصرية شبيهة بالنازية في بدايتها”. فهل الرجل معادٍ للسامية؟