مع كامل الأسف، تظل الصورة المهنية هي المهيمنة في المغرب، ولا نجد سواها بأغلب المعارض، ما يجعل التباين حالة نادرة بين الأعمال المختلفة، أما جوهر الاختلاف بين ما هو فنيّ وما هو مهنيّ فشاسع جدا، فالصورة الصحافية تتسم بطابعها التوثيقي المهني الجاهز، أما الصورة الفنية فهي تعبير عن نظرة متفردة وعميقة وأفكار وأحلام وهواجس وأحاسيس وتطلعات ورؤى خاصة بالفنان.
وتعد ليلى العلوي التي أطفأت رصاصة إرهاب طائشة فلاش كاميرتها ببوركينا فاسو وهي في مهمة رسمية لمنظمة أممية، من المصورات الفوتوغرافيات المغربيات التي لها أسلوبها وخطها الفني المتفرد، فقد استعانت بثقافتها الغربيّة وأصولها الدّاخليّة للبلد الأصل، لتؤكد أن النساء العربيات لسْن سجينات الحياة الخاصة، وأن التصوير الفوتوغرافي ليس حكرا على الرجال، وأن المرأة يمكن أن تبدع في هذا المجال خاصة إذا جمعت بين تكوين غربي منفتح وعمق وغوص في الأصول وحب للتراث وعين فنية لاقطة للتفاصيل والخفي.
فليلى العلوي ذات الأصول المغربية الفرنسية، والتي اختطفتها أيادي الغدر الإرهابية الآثمة، درست السينما والأنتروبولوجيا في نيويورك، عملت في مجال التصوير الفوتوغرافي قبل أن تعود إلى المغرب في العام 2008 لإنتاج عملها “No pasara” هادفةً من خلاله إلى تسليط الضوء على المهاجرين المغاربة إلى أوروبا في ظلّ تشدّد دول القارّة العجوز في سياسات مكافحة الهجرة. بعد ذلك، قدّمت عَلوي عملاً حفريا حمل عنوان “المغاربة”(The Morrocans) سعت إلى إظهار التنوّع الإثني والثقافي المغربي، في مختلف مناطق المغرب، ماضية على هدي المصوّر الفوتوغرافي الأميركي روبرت فرانك في ألبومه “الأميركيون”، سنة 1958، ومواطنه ريتشارد أفيدون الذي اشتهر ببورتريهاته بالأبيض والأسود والمزاوجة بين التوثيقية وجماليات الواقعية.
ويتميز أسلوبها التصويري المتأثر بتعبيرية ترتكز على النظرات والابتسامات والمشاهد اليومية والسعي إلى الانفتاح على البعد الإنساني، حيث اللقاء مع الآخرين والذهاب إليهم، وتبادل المشاعر معهم، والتحول إلى شاهد على فترة زمنية من حياتهم.
وترحالها الدائم بين الأمكنة، نمّى الفضول الذي كبر في داخلها للتعرف إلى الآخر واكتشاف عوالمه عبر السفر واختراق حدود الجغرافيا والثقافات، من دون أحكام مسبقة تعمي البصيرة. السفر من أجل الاكتشاف، كما تعيشه ليلى بنظرة بروست، الكاتب الفرنسي المعروف في القرن 19، «ليس بحثاً عن المشاهد الجديدة، بل هو امتلاك عيون جديدة».
في معرضها الأخير “مغاربة” قبل رحيلها الغادر، تندرج الصورة الفوتوغرافية ضمن إطار الفن التعبيري المستقل، لكونها تتناول الرؤية الواقعية من زوايا متباينة، فهي مرآة تعكس محيطها بكل أمانة، كما تستخدم الصورة كلغة صامتة للحكي والسرد والمحاكاة. لقد أصبح التصوير الفوتوغرافي سمة مستحوذة على جزء لا يستهان به في الفن المعاصر، خصوصًا عندما تكون الأعمال المطروحة قد التقطت بطابع يحمل سمة التجدّد والخروج عن النمط السائد وعلى قدر كبير من الثقافة والإلمام بكل نواحي المجتمع الإنساني كما هو الحال عند ليلى العلوي.
من هنا حاولت ليلي تجاوز زاوية النظر التقليدية في التصوير، وتجاوز الصورة النمطية للمرأة، وسعت لتبديل بعض التصورات المسبقة في العالم العربي، فأصبح جسد المرأة أداة ومساحة للتحرير وللخلق وتأكيد شخصيتها وحضورها، كما وظفت الأزياء والحليّ لأغراض عرقية، اجتماعية، ثقافية، لإبراز هويتها من خلال ممارستها الفنية، وسعت من خلال تلك التجربة إلى بناء هوّيتها البصرية، وعبرها هوية انتمائه بأسلوبها في التصوير المتسم بالبساطة والأصالة والخصوصية التي تكاد تختفي في عصر العولمة، مركزة على نساء من مختلف طبقات المجتمع، ومن زوايا منظورية عدة وبما يلامس دواخل الشخصيات وتبدّل عالمها النفسي والمشاعري، نساء من ثقافات مختلفة. مع الإشارة إلى أنهن لسن ضحايا بل إظهارهن في كامل جمالهن، رغم ما يتعرضن له من حيف مجتمعي. فلا تعتبرهن ضحايا، وإنما نساء يحببن الحياة، جميلات مكافحات مناضلات يقهرن كل الظروف ليكنّ في أحسن صورة.
من بين أبرز الصور الفوتوغرافية لليلى العلوي في معرضها “مغاربة” لوحة “شفشاون، شمال المغرب”، والتي تظهر فيها امرأة مرتدية الزيّ التقليدي لشمال المغرب، وفي نفس الوقت تظهر اللوحة الجانب القوي والثائر في المرأة رغم بساطتها.
لم تتقوقع ليلى العلوي أبدا في خندق ما هو جندري، كغيرها من الفنانات والمصورات، ولم تغوها أبدًا قضايا الحميمية التي صارت تهيمن على الفن المعاصر، كانت وجهتها إنسانية لذلك اهتمت دومًا بالقضايا الراهنة والحارقة كالحروب والتهجير، والهجرة سواء من أفريقيا باتجاه أوروبا سعيًا وراء أحلام وأوهام الرخاء، أو قسرًا من سوريا والعراق هربًا من الحرب الطاحنة هناك.
في معرضها “المغاربة”، كانت الراحلة متيقّنة أن جمال المرأة المغربية وقوتها في خصوصيتها وتشبثها بتراثها بشكل يضع قطيعة مع ما هو استشراقي وغرائبي ومما يخدم البعد المابعد كولونياني؛ فالمرأة في صور ليلى العلوي، تُقَدَّمُ باعتزازٍ وأنفة وعنفوان، في غوص جمالي في تراثها وقصصها، وتعدّديّة الانتماءات فيها، حيث تُقَدِّمُ علوي تراثها عن طريق بورتريهات لنساء بشكل يعكس الغنى الثقافي والهوياتي.
فمعرضها كان شكلا من أشكال الحوار، الذي يسمح بإدماج الخصوصيات في البعد الكوني، وتحقيق التلاقح بين الهويات، من أجل تشييد الهوية المركبة، ويقتضي مبدأ المثاقفة أن نفتح الآنية على الغيرية وأن يكون الأنا وجها لوجه مع الآخر، وأن يتعايشا على الرغم من التنافر بينهما، لأن التمايز عن الآخر يقتضي منحه الاعتراف بكرامته وخصوصيته الثقافية والقبول به كآخر والتواصل معه انطلاقا من القيم الإنسانية المشتركة.
في معرض “ناطرين” لليلى العلوي يعني منتظرين، الذي نظم ببيروت، التقطت ليلى العلوي صورا من رحم أوجاع اللاّجئين السوريّين وعذاباتهم اليوميّة، بعيدا عن كل نمطية وعنصرية، وفي ظلّ الأخبار عن حالات الاغتصاب والتحرّش باللاّجئات السوريات التي ازدادت بشكل لافت في الآونة الأخيرة.
في معرض “ناطرين” كانت ليلى عَلوي بصدد تقديم عمل جريء لموضوع حساس سواء تعلق الأمر بالغوص في حميمية الأشخاص أو بوضعهم السياسي والأمني المزري، فكلُّ صورةٍ من معرض “ناطرين” تروي قصّةً لا بل قصصًا موجعةً عن شعبٍ ذاق الأمرّين في وطنه الأم وفي الملاجئ، سيُشاهد زائرُ المعرض وجوهًا شاحبة، لرجال وأطفال ونساء خائفات وتائهات دون شكّ، على حدود الانتظار، يلملمن بقايا كرامتهن ووجعهن في كل آن، يترقبن الخلاص صحبة أطفالٍ لم يعرفوا معنى الطفولة أو مذاق الدلال في كنف عائلة. أطفالهن مصدرُ سعادة الأمهات السوريات ومن يمنحهن القدرة على التحمل والمضي قدما، ببراءتِهم وضحكاتِهم وطيبتِهم وضجيجِ الحياة والحزن في جفونهم.
لقد تمكنت ليلى العلوي من تصوير المرأة بشكل باذخ عميق غير فولكلوري، ولا غرائبي وأظن أن المرأة المغربية أو العربية ، وهي تنتصب واقفة بزيها التقليدي لالتقاط الصورة لم تشعر أنها أمام أجنبية أو مصورة تتلصص على حميميتها، وتستغل ثقافتها وملابسها وصروحها المعمارية، وتقدم عالما غرائبيا فانتازيا لآخر، ولا أنها أمام كاميرا قد تسلب روحها حسب الوعي الجماعي الذي ما زال يعتقد أن الكاميرا تسلب أرواحهم، بل أمام فنانة مرهفة بأصول وعمق مغربيين وتقنيات ودراسة أجنبية وأفق كوني وإنسانوي رحب.