العلاقة بين السينما والأدب.. سطو أم خيانة مشروعة؟  الإقبال على الأعمال الأدبية يتلاشى لمصلحة «البيست سيلر»

كانت العلاقة بين الأدب والسينما أشبه بتوأمة بين الفنين، فالروائيون يقدمون رؤيتهم للعالم في أعمالهم، وكتاب السيناريو يضيفون رؤاهم إلى هذه الأعمال ويحولونها إلى واقع يتحرك على الشاشة الفضية. ومن يطالع قائمة أفضل مئة عمل في تاريخ السينما المصرية يجد أن ثلثها مأخوذ عن أعمال أدبية لكُتّاب كبار، في مقدمتهم نجيب محفوظ ويحيى حقي وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس وطه حسين وعلي أحمد باكثير وغيرهم. لكن هذه العلاقة تغيرت، ولم تعد السينما بوابة تتويج الأدب ولا مصدر تعميمه على الجمهور، فقد انحصرت العلاقة في حدود إنتاج عملين أو ثلاثة خلال عقد من الزمن، ولا بد من توافر شروط بعينها في العمل الروائي كي تلتفت إليه السينما، حتى الأدباء الذين عملوا في مجال كتابة السيناريو، وذاعت شهرتهم من خلاله، لم يفكروا في تحويل أعمالهم الروائية، ولا أعمال غيرهم إلى السينما، كما لو أن السينما والأدب أصبحا على خصام، ولم يعد متاحًا تلاقيهم من جديد، فما الذي حدث؟ وكيف يمكن أن تعود العلاقة لسابق عهدها، وما الشروط التي تحددها السينما لاختيار عمل أدبي؟

في البداية نفى السيناريست عبدالرحيم كمال الذي قدَّم للدراما المصرية العديد من الأعمال الشهيرة والمهمة -من بينها «الخواجة عبدالقادر- دهشة- الرحايا- شيخ العرب هَمَّام- يونس ولد فضة- الكنز»- أن تكون الدراما استبعدت الأدب من خريطتها، موضحًا أن الدراما «قدمت العديد من الأعمال الروائية مثل «ذات» لصنع الله إبراهيم، و«واحة الغروب»، و«خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر، و«لا تطفئ الشمس» لإحسان عبدالقدوس، ومسلسل «دهشة» المأخوذ عن «الملك لير» لشكسبير. ويذهب إلى أن السينما قدمت أعمالًا لعلاء الأسواني وأحمد مراد وإبراهيم عيسى وسواهم، ثم يستدرك قائلًا: «لكن الروايات الجديدة من بعد جيل الكبار ليس في غالبيتها دراما حقيقية». ويضيف بما يشبه الاتهام أن الأعمال الروائية للشباب، «عادة ما تكون أعمالًا غربية أو أجنبية يتم تمصيرها، ومن الصعب أن نجد بينها أعمالًا تصلح للدراما أو السينما، فالرواية في مجملها الآن أعمال مفتعلة أو مستوردة».

وأكد عبدالرحيم على أن هذه قناعته الشخصية التي استقاها من قراءاته، ومتابعته لما يصدر من أعمال، «أنا في الأساس كاتب روائي، ومتابع جيد للوسط الثقافي، وأؤكد لك أنه من الصعب مقارنة الأجيال الحالية رغم ما قيل عن انفجار الرواية وانتشارها، بالأجيال السابقة، سواء من حيث النضج الفني أو الرؤية الدرامية، فلا يوجد عمل بقوة «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان كي تستفيد منه السينما في تقديم عمل مثل فِلم «الكيت كات»، نافيًا أن يكون للإنتاج أي تدخل في قلة الأفلام المعتمدة على أعمال روائية، «الإنتاج لا يعنيه إن كان العمل سيناريو من الأساس أم معتمدًا على عمل روائي، ولن تفرق معه في ميزانيته تخصيص مكافأة للكاتب عن روايته».

ذوق الجمهور والعمل المليء بالدلالات

في حين يذهب الناقد السينمائي كمال القاضي إلى نقيض ذلك، مؤكدًا أن «أي عمل سينمائي يستلزم التعاقد مع الكاتب، وهو ما يعني ميزانية إضافية على المنتج». ويلفت إلى أن الجانب الثاني من المعادلة يكمن «في ذوق الجمهور ذاته، الذي لم يعد متوافقًا مع العمل الأدبي المليء بالدلالات، ومن ثم فالمخرجون ما عادوا يفضلون التعامل مع السيناريو المأخوذ عن أعمال روائية». ويتطرق القاضي إلى أن داود عبد السيد وكاملة أبو ذكري ويسري نصر الله، كانوا يفضلون الأخذ عن أعمال أدبية، ويرى أن تجربة مخرج كداود عبد السيد في فلم «الكيت كات» كانت تجربة ناجحة جدًّا، جمعت بين الإقبال الجماهيري والعمق الفني». غير أنه يعود ليقول: إن داود عبد السيد «يشكو الآن من المسافة التي أصبحت بينه وبين المنتجين، لتمسكه بالقيمة وتمسكهم بالربحية، أما كامل أبو علي فقد انسحب من سوق الإنتاج؛ لأن منافسيه يقدمون أعمالًا غثة لكنها تربح، وهو لا يستطيع أن يجاريهم»، مؤكدًا أن كُتّاب السيناريو الذين يتناولون الأدب كفنٍّ أصبحوا قليلين، «ومن ثَم قلَّت فاعلية وحضور الأدب في السينما، ولم تبقَ سوى بعض أسماء قليلة مثل وحيد حامد الذي يفتش عن أعمال أدبية تصلح للسينما، ويسري الجندي دائم التنقيب في حقب التاريخ وكتبه، ومن قبل كان أسامة أنور عكاشة، الذي برحيله تقلص عدد المؤمنين بالأدب ودورهم في الخيال السينمائي». وتوقف عند تجربة تحويل أعمال بهاء طاهر «خالتي صفية والدير»، و«واحة الغروب» إلى الدراما، قائلًا: «هي تجربة لا يمكن التشكيك في جودتها، وبخاصة أن بهاء اعتمد التوازن الفني والفكري في أعماله، وخروجاته كانت حسب مقتضيات الضرورة الفنية، وبالتالي كان المخرج والمنتج سعداء بالتجربة ككل». وعلى النقيض جاء رأيه في تجربة «الفيل الأزرق» لأحمد مراد، فقد ذهب إلى أنها «من التجارب الجميلة، لكنها لم تلقَ نجاحًا لدى الجمهور لغرائبيتها وعدم وضوحها». ويعتقد كمال القاضي أن الأفلام المأخوذة عن أعمال روائية، «لا تراهن على الإقبال الجماهيري، بقدر ما تراهن على حصد الجوائز والخروج من المحيط الإقليمي المحدود».

مشكلة كُتّاب السيناريو الجُدد

أما أستاذ النقد في المعهد العالي للسينما الدكتور ناجي فوزي فاختصر القضية في كُتّاب السيناريو الشباب، قائلًا: «لدينا كتاب سيناريو بارعون في كل شيء ما عدا النقل عن الأدب، فغالبيتهم ليست لديهم إمكانيات تكثيف عمل روائي في فِلم مُدَّته ساعة ونصف، ولا تطوير أُقصُوصة من صفحات عدة إلى عمل سينمائي كبير، وهذه مشكلة لدى كتاب السيناريو الشباب أو الجدد». ويرى الدكتور ناجي أنه لا يوجد توقف في السينما حتى الآن عن التعامل مع الأعمال الأدبية، «ولكن كل ما هنالك هو تراجع لهذا التعامل». ويشير إلى أن السينما تقوم على فكرة الموجات المتلاحقة، وأن أدب نجيب محفوظ نفسه، لم يعد يشهد الإقبال عليه من قبل السينمائيين الآن، «السينما موجات. وقد انحسرت في السنوات الأخيرة موجة الاعتماد على الأسماء الكبيرة في الأدب، فلا أحد يقلب في كنز نجيب محفوظ، رغم أن ما قدمه نجيب لا يختلف كثيرًا عما نعيشه الآن، فالأحياء التي كتب عنها والمعروفة بالأحياء الشعبية الفقيرة هي نفسها المناطق العشوائية لدينا، ولكن بتخطيط القرون الوسطى».

ويدين الدكتور ناجي صناعة السينما الراهنة، متهمًا إياها بأنها «تقود المصريين إلى التدني، رغم اعتمادها في بعض الأفلام على أعمال أدبية مثل «يعقوبيان» التي تعاني مشكلةً في البناء الفني، إلا أن السينما قدمتها بشكل جيد». ويقول: ليست لدينا الرغبة في التعلم، فتعلم الأدب لا يتوافق مع التدني الذي يسعى إليه الناس، والميديا في عمومها تقود المصريين الآن إلى التدني في الثقافة والعلاقات الاجتماعية، ومن ثم فنحن في طور التدني الذي يتفق مع الابتعاد من الأدب كمصدر للعمل السينمائي، وعندما كانت الدولة شريكًا في عملية الإنتاج في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات كانت قادرة على ضبط المنظومة، وكانت السينما تبحث عن الأعمال الأدبية لأهميتها، وليس لشهرتها كما في «يعقوبيان» أو «الفيل الأزرق».

أدوات الرواية والسينما

يرفض الكاتب إبراهيم عبدالمجيد التحدث بشكل مباشر عن تجربته مع الدراما، على الرغم من أنها قدمت له رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية» التي حققت إقبالًا جماهيريًّا كبيرًا حين عرضها، وأصرَّ على الحديث بشكل عام حول العلاقة بين الأدب والسينما؛ إذ يقول: «الرواية لها أدوات لتنفيذها وهي اللغة، والسينما لها أدوات وهي الصورة، وليس بالضرورة أن تعبر الصورة عما تعبر عنه اللغة، ففي الرواية من الممكن أن أكتب عشر صفحات لوصف المكان، وفي السيناريو من الممكن أن يتم التعبير عن هذا المكان في مشهد واحد».

ويذهب عبدالمجيد إلى أن السينما رغم أنها أكثر إيجازًا من الأدب، «إلا أنها تشتمل على كل الفنون، فيها السرد من الرواية والقصة، والحوار من المسرح، والتشكيل البصري واللوني من الفن التشكيلي، والشعر في شعرية الصورة، وغيرها». ويرى أن السينما تخون العمل الأدبي، مؤكدًا على عدم التطابق بين السينما والعمل الأدبي، «ليس شرطًا أن تكون السينما مطابقة للعمل الروائي، ولا أن تكون في مستواه، فأغلب الأفلام المأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ لم تقدم كل معاني الرواية وأفكارها، وهذا لا يعني أنها سيئة أو ضعيفة، ولكنها لن تكون مطابقة للعمل الروائي». ويوضح عبدالمجيد أن السينما أثرت في لغته ورؤيته في الكتابة، «صرت أهتم بصناعة الصورة أكثر من اللغة». ويضيف أنه ليس وحده الذي تأثر بالسينما، «هناك كتاب أدخلوا لغة السيناريو في كتابتهم الروائية، بداية من مجيد طوبيا وصولًا إلى محمود الغيطاني». ويذكر أن الأسباب التي لا تجعل السينما تقبل على الأخذ عن أعمال روائية، هو سرقة الأفلام وبثها على اليوتيوب، وأن مسلسلات الدراما أصبحت أكثر ربحية ومن الصعوبة سرقتها. ويقول: «بعد انهيار مؤسسة السينما لم يعد لدينا منتجون مغامرون مثل رمسيس نجيب، ولكن الكل يهتم الآن بالمسلسلات، وفي الأخير لم تعد لدينا قاعات عرض، فالمتاح الآن أقل من ربع ما كان موجودًا في الستينيات».

اجتهاد ضد الضمير

الكاتبة الروائية هناء عطية -صاحبة سيناريو فلم «يوم للستات» الذي شارك في عدد من المهرجانات وحاز جائزة السينما الإفريقية بإيطاليا- تقول: إن «90 في المئة من أفلام السينما الآن مسروقة من أفلام أميركية، ولا يوجد اجتهاد أو قراءة لدى كتاب السيناريو، فالسينما الآن استهلاكية ولا اجتهاد فيها». وتضيف: «أن الجزء المتبقي من كتاب السيناريو يجتهدون ويقرؤون الأعمال الأدبية، «لكن اجتهادهم في الغالب يكون ضد الضمير والأعراف الإنسانية»، وهؤلاء غالبيتهم يسطون على العمل الأدبي، وبدلًا من أن يقول هذا عَمَلُ مَنْ، أو نقلًا عن رواية أو قصة مَنْ، فإنه ينسب الفكرة والموضوع لنفسه، وهؤلاء ليسوا نسبة قليلة، فالنسبة القليلة هي التي تقوم بتأليف السيناريو من دون سرقة لا من أفلام أجنبية ولا من أعمال روائية لكتاب غير معروفين».

هناء عطية

وعلى الرغم من أن هناء عطية كاتبة روائية، فإنها لم تفكر في تحويل أي من أعمالها، ولا أعمال أصدقائها إلى عمل روائي، عن ذلك تقول: «أنا درست سيناريو في معهد السينما، وأؤلف مباشرة للسينما، وأنا أيضًا كاتبة روائية، لي أعمال معروفة، من بينها عملي الآخير «رمادي» الصادر عن دار بيت الياسمين، لكن لم أفكر في تحويل أعمال روائية سواء لي أو لغيري، ولا أعرف السبب، لكن في شكل عام أنا عندي أفكاري الخاصة التي أكتبها للسينما مباشرة». وتذهب هناء إلى أنه ليست كل الأعمال الروائية قابلة لتحويلها إلى السينما؛ لأنه «كلما ازدادت القيمة الأدبية للعمل صعب تحويله للسينما»، وحددت مواصفات الرواية التي تحول إلى السينما بأنها «البيست سيلر، أو المكتوبة للقارئ الجديد الذي يقرأ على «البلاج»، وليس لديه ميراث أدبي، أو أعمال انتشرت وأصبحت موضة»، وتؤكد أن «العمل الأدبي كلما ارتفعت قيمته الأدبية قل عدد قُرّائه، وتحويله للسينما يصبح صعبًا».

جمهور السينما المثقف أصبح يشاهد أعمالًا فارغة المحتوى

أكد المخرج السوري أنور القوادري حدوث القطيعة بين السينما والأدب، قائلًا: «للأسف لم يعد هناك اهتمام بتحويل أو اقتباس الأعمال الأدبية إلى أفلام سينمائية؛ لأن المنتجين السينمائيين أصبحوا يبحثون عن أفلام تجارية بحتة، معظمها من دون أي مضمون، وتثير الغرائز، وبلا أي رسائل تفيد أو تصلح المجتمع.. كما أن جمهور السينما المثقف الذي كان يقرأ ويطالع في القرن الماضي لم يعد يقرأ، وأصبح مشاهدًا ومتابعًا لمسلسلات تركية ومكسيكية وهندية تمتد حلقاتها الفارغة المحتوى إلى ١٥٠ حلقة، بوقت مهدور وضائع بعيدًا من الثقافة والفن».

أنور القوادري

ويذهب القوادري في حديث لـ«الفيصل» إلى ضرورة عودة الإنتاج الحكومي كحلّ لضبط الإيقاع السينمائي، «لا شك أن الدعم الحكومي لإنتاج أفلام سينمائية فنية مهم جدًّا لنقدم أفلامًا ممكن أن تبقى خالدة وتصبح من كلاسيكيات السينما بالتوازي مع أفلام القطاع الخاص»، مشيرًا إلى أنه في الدول المتقدمة مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا، «يدعمون أفلامًا ذات مستوى فني وثقافي من دون النظر إلى شباك التذاكر.. ولولا هذا الدعم في السابق لَمَا أُنتِجتْ أفلام رائعة مثل: «المومياء» و«الزوجة الثانية» و«شيء من الخوف» على سبيل المثال»

تم عمل هذا الموقع بواسطة