المسرح العربي في مأزق فن البسطاء لم يعد قادرًا على التعبير عن همومهم أو مخاوفهم

لم يكن المسرح العربي يعرف في زمن ما معنى «أزمة» مثلما يعرفها الآن، على الرغم من كثرة ترديد المسرحيين لهذه الكلمة. فعلى مدار تاريخه منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى وقتنا الراهن والمشتغلون في مجال المسرح يتحدثون عن وجود أزمة في المسرح، ربما تمثلت في قلة النفقات، وربما في ندرة خشبات العرض، أو حتى تفتت الفرق الكبرى ورحيل النجوم والمؤسسين. لكن طيلة الوقت كان ثمة ورق جديد لكتاب جدد، وجمهور كبير يقبل على هذا الفن الذي يمكنه أن يستوعب مختلف الفنون الأخرى، بدءًا من الغناء والموسيقا والرقص إلى الإلقاء والتأليف والوعظ والإلهاء والتثوير، حتى إنه في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي كان هو الفن الجماهيري الأول. واستطاع منافسة السينما والتلفزيون لسنوات طويلة، حتى إن مسرحية «الزعيم» لعادل إمام ظلت تعرض لأكثر من عشر سنوات على المسرح، وما زالت أعمال سعد الله ونوس ومحمد الماغوط ومحمود دياب وعلي سالم والرحبانية وغيرهم قادرة على إمتاع الناس حتى الآن، لكن السنوات الأخيرة كشفت أن المسرح العربي خرج من المنافسة، ولم يعد قادرًا على إمتاع الجماهير أو جذبهم، وأن تجارب مثل مسرح مصر أو غيرها لم تقدم إلا مزيدًا من التسطيح، وأن فن البسطاء لم يعد قادرًا على التعبير عن همومهم أو ثوراتهم أو مخاوفهم، فهل يعيش المسرح العربي الآن في أزمة، وما أسبابها؟ وكيف يمكن الخروج منها؟

زياد عيتاني: الإعلام يتعامل مع المسرح بطريقة خاطئة

الصعوبات التي تواجه العاملين بالمسرح أولها الإعلام الذي غيّب عن الناس الثقافة العامة، ونعني بالثقافة العامة أن نقدم مسرحًا قائمًا على الروايات الكلاسيكية الشهيرة، أو الأعمال التي يقال عنها: إنها نخبوية، وهي في حقيقة الأمر غير ذلك، فما معنى أن يعطي الإعلام انطباعًا عن المسرح أنه أمر ثقافي كبير وخاص بالمثقفين أو نخبة معينة من الناس، ألم يكن ما قدمه محمد الماغوط مع دريد لحام ثقافة شعبية؟!، ألم يلامسا كثيرًا من الأمور المهمة في عالمنا العربي؟ الشيء نفسه فعله لينين الراملي مع محمد صبحي. فلماذا الترويج للمسرح كأن إيقاعه بطيء ونخبوي، ولا يمكنه أن يجاري ما هو سائد بالسوق؟ هل ما هو سائد بالسوق هو كل ما نملك؟ لا أظن. من المؤسف أن الإعلام تعامل مع المسرح بطريقة خاطئة، فالمسرح أبو الفنون، ولا بد أن يمنح الحيز الأول، فلماذا تغيبت الأعمال الروائية عن الدراما التلفزيونية، ما زلنا نتذكر التلفزيون المصري وهو يقدم أعمالًا لتشيخوف، من بينها سهرة تلفزيونية مدتها ساعة بعنون: «الرهان»، قام ببطولتها يحيى الفخراني، هل كانت نخبوية؟ لا لم تكن نخبوية، فقد كتبت بأسلوب عصري سريع يناسب الشباب، وهكذا يمكننا أن نمثل كثيرًا من الأعمال العالمية المهمة، لكن الإعلام لا يساعد.

الأمر الثاني هو الإنتاج الذي يسعى للربح السريع دائمًا، فيطالب المسرحيين بشيء أقرب إلى ما يسمى بـ«اللايت»، على أساس أنك لا تستطيع أن تقدم للعالم غير اللايت، بالطبع لا، فأنا قدمت ثلاث مسرحيات، إحداهن بلبنان، لبنان الذي تعداده أربعة ملايين نسمة، استمرت لمدة ثلاث سنوات، حضرها 45 ألفًا، وهي نسبة كبيرة، كانت المسرحية بعنوان: «طريق جديد» وهي مقاربة تاريخية كوميدية لعدة نقاط في عالمنا العربي، فماذا كان دور المنتج، المنتجون يفضلون دائمًا الربح السريع، يفضلون ما يعرف بـ«الكوميدي لايتس»، وهو ما أثر في مفهوم المسرح الشعبي.

يمكن للنهوض أن يحدث من خلال ثلاثة محاور أساسية: أولها هو الإعلام، وثانيها هو السلطة أو الدولة التي لا بد أن تضع المسرح ضمن مناهج التلاميذ في المدارس والطلاب في الجامعات، وتشركهم أكثر في الثقافة المسرحية المفقودة، فيجب أن ندعم كل البرامج الثقافية، فالثقافة ليست ذلك المفهوم النخبوي، لكنها كل شيء في حياتنا، تاريخنا، حضارتنا، كل شيء، نحن يمكننا أن نتناول أي شيء في حدود 120 كلمة على تويتر، فهل نستطيع عمل ذلك من خلال المسرح؟ بالطبع يمكننا أن نصنع كثيرًا، فقط أعطوا المسرح المجال المناسب، وليس بطريقة البحث عن نجم كبير كي نصنع له عملًا مسرحيًّا، هذا النهوض لا بد أن يتعاون فيه كل من الإعلام والسلطة والمسرحيين أنفسهم، أما أن يُترك المسرحيون وحدهم فذلك أمر صعب، والمسرحيون كما يقال يعيشون من اللحم الحي، لكن هذا طريق صعب ولا بد أن نسلكه حتى يستمر هذا الفن، فهذا الفن بناه مسرحيون كبار بداية من جورج أبيض إلى نجيب الريحاني إلى فؤاد المهندس، ودريد لحام، ومحمد الماغوط بالشام، وجابر مهموش بالإمارات واجباعي بتونس والرحبانية بلبنان؛ لذلك لا بد أن يستمر لأنه جزء مهم وأساس في حضارتنا العربية.

كاتب وممثل مسرحي لبناني

ناصر ونوس: الحكومات رفعت الدعم عن المسرح

منذ ولادة المسرح العربي أواخر القرن التاسع عشر وهو يمر بمراحل متأزمة، يزدهر سنوات تطول أحيانًا وتقصر أحيانًا أخرى، ثم تأتي مرحلة الهبوط، تطول أيضًا أو تقصر. وآخر مراحل ازدهار المسرح العربي كانت في أواخر عقد الثمانينيات، ثم بدأ نجمه يأفل من جديد. إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي، حيث يمر بأسوأ مراحله –باعتقادي- منذ تأسيسه. وأسباب أزمة المسرح العربي كثيرة، أولها عزوف الحكومات العربية عن دعم المسرح، طالما أن هذا المسرح يتناول قضايا تعدّها هذه الحكومات خطيرة عليها. وهنا نأتي إلى النقطة المهمة وهي أن المسرح لا يمكن أن ينتعش إلا في ظل الحالة الديمقراطية وتوافر المناخ لحرية التعبير.

ومن يراجع تاريخ المسرح العالمي والعربي والحقب التي ازدهر فيها يدرك ذلك. ففي الستينيات والسبعينيات ازدهر المسرح قياسًا بالوقت الحالي؛ لأن القبضة الأمنية للأنظمة الحاكمة لم تكن بعد قد أحكمت سيطرتها على قطاعات المجتمع كافة، ومنها القطاعان الفني والثقافي، كما هو حاصل الآن. ما زال هناك فسحة للتعبير عن الرأي، وطرح القضايا الكبيرة منها والصغيرة، من دون هذا التدخل الفج في تفاصيل العملية الإبداعية. كان ثمة هامش لحرية التحرك بمعزل عن الرقابة المشددة على كل كلمة تقال كما هو الوضع الحالي. ومع إدراك هذه الأنظمة أن المسرح قد يهدد وجودها، ولو بشكل غير مباشر، بدأت برفع الدعم عنه، مثلما امتنعت عن إقامة المعاهد المسرحية التي ترفد الحركة المسرحية بأجيال جديدة. كما امتنعت عن تشكيل الفرق المسرحية الجديدة التي تلبي حاجات المجتمع الثقافية والفنية المتنامية، وحولت المهرجانات المسرحية إلى استعراضات إعلامية تهدف إلى تحسين سمعة الدولة أو النظام القائم.

ومع امتناع الدولة عن تقديم الدعم للمسرح، وصلنا إلى مرحلة نعاني فيها شحّ الكوادر المسرحية، من كُتاب ومخرجين وفنيين، بل ممثلين يعملون في المسرح. ومن ثم فإن الخروج من هذه الأزمة يجري بتأهيل كوادر جديدة، وتكوين فرق مسرحية جديدة في جميع المدن والبلدات حتى القرى، وإقامة المهرجانات على المستوى المحلي والعربي، وهو ما يعزز روح المنافسة ومن ثم التطوير المستمر. يجب علينا ألّا ننتظر الحكومات حتى تقدم الدعم للمسرح من تلقاء ذاتها، إنما علينا السعي الحثيث لتحقيق طموحاتنا المسرحية من خلال مطالبتها بالدعم المطلوب. وينبغي لنا ألّا نكتفي بالمصادر الحكومية لمثل هذا الدعم، بل يجب البحث عن مصادر التمويل الخاص، من خلال إقامة شركات إنتاج محلية، تنتج العروض الم

سرحية مثلما تقوم شركات الإنتاج السينمائي بإنتاج الأفلام.

كاتب ومترجم وناقد مسرحي سوري

سعيد حجاج: ليس هناك أزمة في المسرح

من تاريخ قراءتي للمسرح وأنا أسمع أن هناك أزمة في المسرح، على مر العقود والأزمان ثمة أصوات تتحدث عن وجود أزمة في المسرح سواء المصري أو العربي، وعن نفسي لا أرى هذه الأزمة، لكني أرى الدنيا تطور، وكل مسرح يشبه عصره، لكن أزمتنا نحن أن الدنيا تتطور ونحن نرى المسرح بعيون الستينيات، نتعامل معه طيلة العقود التي تلت الستينيات من منظور هذه الحقبة، والحقيقة أن الستينيات كان بها إستراتيجية وتوجه، لكن بعد رحيل الرئيس عبد الناصر لم تعد هناك إستراتيجية ولا توجه، من ثم ظهرت فكرة أزمة المسرح. الواقع يقول: إن الأزمة الحقيقية تكمن في علاقة الناس الآن بالمسرح، فالميديا أخذت اهتمام الناس إليها، وتركت المسرح يعاني ضعف الاقبال وقلة الجمهور، وهو ما يشعر الناس بأن ثمة أزمة، متناسين الفارق الزمني والتقني والإعلامي بين الستينيات والآن. كانت السينما في الستينيات هي المنافس الوحيد، أما الآن فهناك السينما والدراما التلفزيونية وبرامج التوك شو وغيرها، وكل هذا خصم من رصيد المسرح في اهتمام الناس.

كاتب مسرحي مصري

وليد داغستاني: الأولوية لمسرح المدرسة

يشكو المسرح العربي اليوم من معضلات شتى تعيق الفنان وتحدّ من قدراته الإبداعية في ظل غياب تصور واضح لدور المسرح في المجتمع. وقد يعود ذلك إلى جهل أغلبية الحكومات العربية بقيمة المسرح، ومن ثم فإن ما يُرصد له من ميزانيات محتشمة تفرضه ضرورة دبلوماسية للظهور أمام الدول المتقدمة بمظهر التحضر، ولهذا فقد آن الأوان للتفكير جديًّا في تأهيل المسرحيين للاضطلاع بدورهم الحساس، من خلال التكوين والدعم، وإعطاء أولوية مطلقة لمسرح المدرسة والجامعة، وإشعار الناس بقيمة هذا الفن. ويظل أيضًا القطاع الخاص مسؤولًا بشكل مباشر عن نوعية ما يقدمه من أعمال مسرحية عادة ما تكون ذات طابع تجاري. ولذلك فإن الفنانين عليهم حث الدولة على سن قوانين تحمي مهن الفنون الدرامية، وتشجع النقابات على الوقوف إلى جانب حقوق المسرحي في العيش الكريم وتكافؤ الفرص.

مخرج وممثل مسرحي تونسي

محمد أبو العلا السلاموني: سوء الإدارة وراء أزمة المسرح


المسرح بشكل عام في حالة أزمة كغيره من مؤسسات المجتمع العربي الراهن، نظرًا لما تمر به البلدان العربية جميعًا من ظروف عاصفة في أعقاب الربيع العربي، هذه الظروف التي أضعفت كل شيء بما في ذلك المسرح العربي، فقد شملت الفوضى كل شيء، وعمّ الدمار في كثير من بلدان المنطقة، وارتعد الجميع من تلك الموجة الشريرة للجماعات المتشددة في مختلف بلدان العالم العربي. والمسرح من المفترض أنه إحدى الأذرع المهمة التي ينبغي لها مواجهة قوى الإرهاب، هذا إذا فكر المسؤولون عن المسرح بشكل إيجابي في كيفية مواجهة الإرهاب، فهي قضية ثقافية بامتياز، والمسرح في قلب العملية الثقافية، فالفكر لا يواجَه إلا بالفكر، أما اعتماد مواجهة العنف بالعنف، فذلك سيؤدي إلى دمار شامل، يمكننا معالجة القضية من جذورها بتغيير الفكر الحافز على الإرهاب، لكن المشكلة تكمن في سوء الإدارة، وفي ظني أنها هي أساس أزمة المسرح الراهنة. فالعشوائية والشللية سيطرتا على هذا القطاع بشكل واضح، وليس هناك مسؤول لديه رؤية أو إستراتيجية واضحة للتعامل مع الإرهاب من خلال المسرح، ولا حتى للمسرح بشكل عام في هذه المرحلة، ففي الستينيات كان مدير المسرح لديه خطة وبرنامج وأفكار واضحة، وحين يتوقف عمل لظرف ما كان يسرع بالاتصال بالكتاب كي يقدموا له عملًا يسد الفراغ الذي تركه العمل الذي توقف، الآن الأمور كلها تسير بالمصادفة والهوى، ومن ثم فلا أحد يعرف ما الذي ينبغي عمله ولا ما الضرورة، مشكلة المسرح بالدرجة الأولى هي مشكلة سوء إدارة، وانعدام خيال، وهيمنة شللية، وانعدام الرؤية الإستراتيجية لما ينبغي عمله.

كاتب مسرح ودراما تلفزيونية مصري

محمد المنجي بن إبراهيم: بين أحكام المتغيّرات وفضاءات الحرية

العلاقات ضمن الحياة المسرحية في تونس، وكذلك حسب اطلاعي، في كامل الوطن العربي يشوبها التأرجح والمدّ والجزر بين مجموعات تنادي بالحداثة والتجديد على الأصعدة الفكرية والفنّية وكيفيات الإنتاج والتقديم، وشؤون التوزيع والترويج، ومجموعات أخرى متشبّثة بنمطية مسرحية تدرّ الربحَ الوفير من دون عناء أو شقاء التفكير. وهناك شقّ آخر يمسك بوسط العصا، ويسعى إلى أن يكون لمسرحه وجود ولو متواضع، فيُقْدِمُ على أنماط مسرحية ذات طابع تقليدي من حيث الاختيار ومجهود إنجاز العرض سواء فيما يتعلّق بالكتابة المسرحية أو الأطر الفنية للإعداد والتقديم.

وفي هذا الشأن يكمن فسيفساء المسرح العربي، وقطاعاته المحترفة، والهواة، والمسارح الجامعية والمدرسية، وذلك ضمن علاقات مضطربة وفي أجواء لا تخلو من مطبّات هوائية غير مريحة. خلاصة هذا المعنى أن المضايقات السلطوية لحرّيات التعبير هي أجهزة قمعية تحدّ من انتشار المقترحات الفنّية الجريئة، وأنّ التسيّب والفوضى والتعاطي الاعتباطي للنشاط المسرحي يُدخل المسرح في متاهات متداخلة كخيوط العنكبوت يصعب الخروج منها، وأنّ أشكال التطرّف السياسية أو الدينية أو الاجتماعية تجذب كلّ المحاولات التقدمية إلى الخلف وإلى الأسفل، وأن الحرّيات المزعومة بمفهوم :«اصنع ما شئت» و«العالم صغير» و«لا حاجة لهوية»… وغيرها هي عوامل لا تضمن استقرار الذات، وتُهمل التعريف بالشخصية، ولا تُعير اهتمامًا باحترام الهوية، بل هي عوامل تُؤدّي إلى التيه والغربة، وإلى ضروب العدمية بانعدام الكيان، ومن ثم فعلى كل فنان مسرحي اختار عن طواعية واقتناع أن يجعل من حياته المهنية والمجتمعية خدمة للتعبير المسرحي بمكوّنات وأدوات تسمح له لا أن يضاهي كبار القوم المتقدّم فقط إنّما بالتنافس المشروع معهم، وذلك بأن يعتمد على هويته وبَصماته المحلية، وثراء ثقافته ومراجعه التراثية والتاريخية، وبُعد النظر الحداثي والمعاصر، ولا يكون في التفرقة والتشتّت والضغينة والأحقاد، ولا في الصراعات الداخلية والخارجية ورمي الآخرين بالحجارة ونعتهم بالتخلّف واللا-اعتبار، فالكبير يبقى صغيرًا أمام شسوع المعرفة، والفنان يبقى متواضعًا أمام عظمة الإبداع.

ناقد ومخرج مسرحي تونسي

سميحة أيوب: المسرح تحول اسكتشات هزلية فقيرة وأحيانًا مهينة

سميحة أيوب

الحالة العامة في جميع البلاد هي سبب اضطراب المسرح، ولا يمكننا أن نتحدث عن مسرح حقيقي ومزدهر في ظل ظروف غير مستقرة، فأغلب البلدان في العالم العربي تعاني عدم استقرار واضح، وأغلب البلدان غير مستقرة ماديًّا أو سياسيًّا، وهذا ترك تأثيره في المسرح في العالم العربي كله، ولا نملك الآن إلا المبدعين أنفسهم، سواء الكتاب أو الممثلون أو المخرجون أو العاملون في الإضاءة والملابس والديكور وغيرها، لا نملك سوى البشر، وهم العنصر الوحيد الذي يمكن الرهان عليه، فلا الأدوات والميزانيات ولا الإمكانيات متوافرة، وكي يتوافر ذلك كله لا بد من توافر حالة من التوازن. وفي ظل الأحوال السياسية التي تجوب العالم العربي الآن فمن الصعب الرهان على شيء، فالعالم العربي منذ سنوات وهو يعيش حالة من الاضطراب السياسي، والمسرح هو عمل ثقافي وسياسي أيضًا، واضطراب الحالة السياسية يقضي باضطراب أحوال المسرح بشكل واضح، ومن ثم فإننا لا نملك إلا مطالبة المبدعين أنفسهم بالتمسك بعملهم، وكل منهم يقدم عمله على أكمل وجه؛ كي لا يخسر الجميع، المسرحيون أنفسهم قبل الجمهور والمجتمع كله. ولا يمكن عد كل ما ينتج الآن عملًا مسرحيًّا حقيقيًّا، فالمسرح أمر حضاري جدًّا، لكن هناك تجارب تقدم الآن مسيئة إلى الذوق والفن، ألفاظ خارجة، واسكتشات بذيئة، ورغبة في إهانة الممثلين بعضهم بعضًا كي يضحك الجمهور. هذا ليس مسرحًا، ولا ثقافة ولا قيمًا، المسرح فعل حضاري يجب الحفاظ عليه، ولا يجب الاستسلام لموجات الانحطاط التي توالت على المسارح العربية في الأوقات الأخيرة، وهذا لا يعني أن المسرح العربي كله ضعيف، لكن الرغبة في إرضاء الجمهور وإضحاكه حولت المسرح إلى اسكتشات هزلية فقيرة وأحيانًا مهينة.

عبدالعزيز السماعيل: أزمة وجودية في الصراع بين قيم المدنية، والقيم المتطرفة

أعتقد أن المسرح بوصفه فنًّا وحدثًا اجتماعيًّا ثقافيًّا جادًّا حيًّا ومباشرًا، أو هذا ما يجب أن يكون عليه أصلًا، قادر على المساهمة بفاعلية في مواجهة كل أشكال الأزمات والقضايا التي تهم المجتمع العربي الآن، ومن ضمنها تعزيز قيم التسامح والمحبة والمواطنة والمشاركة والحوار… إلخ، من قيم حضارية وإنسانية عالية هي أصلًا من صميم فضائل الدين الإسلامي الحنيف، في مقابل كشف الزيف والتضليل الذي يدعيه دعاة الغلو والتطرف والانغلاق باسم الإسلام، إلا أن المسرح العربي ذاته واقع في أزمته الخاصة والمزمنة منذ سنوات طويلة؛ بسبب ضعف الدعم وغياب التخطيط الإستراتيجي للثقافة عمومًا ومن ضمنها المسرح، إضافة إلى العنصر الأهم وهو تشديد سلطة الرقيب التي تعوق دوره في تناول القضايا المهمة في المجتمع بشكل واضح وصريح، وقد ضاعف الآن الانفتاح الكامل على العولمة وقيم السوق والاستهلاك الرأسمالي من أزمة المسرح العربي ليس فقط في الوطن العربي بل في العالم أيضًا، ولأن ما يعنينا هو المسرح في واقعنا العربي تحديدًا، يمكن ملاحظة أحد مظاهر تلك الأزمة في انقسام المهتمين بالمسرح أنفسهم تيارين مختلفين.

فالذي لا يستطيع مجاراة عروض السوق الاستهلاكية للترفيه والتسلية انسحب إلى العزلة، أو إلى تغليب الشكل المسرحي وألوان السينوغرافيا بدعوى التجريب الغارق في الترميز والدلالات اللغوية المنفلت من أي موضوع أو مضمون جاد له قيمة فكرية مهمة في المجتمع، في حين بقي المسرحي الجاد المؤمن بدور المسرح وأهميته يصارع من أجل توفير احتياجاته المسرحية الملحّة، أملًا في أن يجد له مكانة اجتماعية مرموقة يتمناها منذ زمن بعيد ولا يستطيع الحصول عليها إلا مع النخبة المسرحية في عروض المسابقات والمهرجانات أحيانًا.

إن المجتمع الذي يدعم وهم الخصوصية والمحافظة على التقاليد، رغم انفتاحه المفرط على أنماط السوق وقيم الاستهلاك الرأسمالي المادي، لن يبحث عن قيمة حقيقية للفنون، ولا عن مسرح جاد وحقيقي يناقش قضاياه وهمومه الاجتماعية الحقيقية، ومن ضمنها قضايا التطرف والغلو والإرهاب، بل عن مسرح استهلاكي مُسلٍّ ساخر من مشاكل الناس والأشكال النمطية للشخصيات الشاذة فيه، مثل: الأسود والسمين والأعور والقصير والطويل… إلخ من موضوعات سطحية فجة تستجدي إضحاك المشاهدين وتسليتهم بأي شيء، ومن أي شيء غريب أو عجيب في سلوكه أو هيئته.

ومن ثم فإن القيم التي تسطح المسرح وتتعامل معه كعلبة غازية فارغة سوف ترمى بعد الانتهاء منها، سوف تنتج قيمًا لصالحها، سطحية وتافهة أيضًا، لكنها عميقة ومؤثرة في نفوس الناس وتسطيح تفكيرهم، ومن ضمنها تدمير قيمة المسرح، حين يتحول إلى منصة تهريج ليس إلا.

إن ازمة المسرح العربي كانت ولا تزال أزمة في العمق، أزمة وجودية في الصراع بين قيم الثقافة والتحضر والمدنية، والقيم الدينية المتطرفة والعادات والتقاليد المحافظة، على الرغم من مظاهر التمدن والمعاصرة الشكلية في المدن وحياة الناس.

تم عمل هذا الموقع بواسطة