القانون الطبيعي عند الفلاسفة المسلمين


شكّلت الفلسفة مُنعطفاً حاسماً في تاريخ الفكر الإسلامي برمّته، رغم الجدل الذي لاحقها، ورغم النّقد اللاذع الذي تبِعها. ويتجلى ذلك الجدل الذي لاحقها في اعتبارها فلسفةً لم تحمل أيّ جديد، ولم تحمل على عاتقها قضيّة ما، وما زاد الطين بلة هو أنّ بعض المستشرقين روّج لصورة شيطانيّة عن الفلسفة الإسلاميّة، باعتبارها مجرد فلسفة يونانية مُشوّهة كُتِبت بحروفٍ عربية، بمعنى أن القامات الفكرية التي أنجبها العالم الإسلامي (الفارابي، ابن رشد، الإمام الغزالي…) اقتصرت على ترجمة كتب أفلاطون وأرسطو في فترةٍ عرف فيها العالَم الإسلامي انفتاحاً كبيراً على الثقافة اليونانية، نال على هذا الانفتاح وافر الإشادة والثّناء. بيد أنّ الفلسفة الإسلامية شكلت حقلاً معرفياً زاخراً بالأفكار والمعارف التي لا تنقضي عدّا، وبذلت جهداً جهيداً في نقل التراث اليوناني إلى اللغة العربية، ودرس روادها أعمال أفلاطون وأرسطو دراسة متأنِّية، واستشكلوا القضايا التي طرحتها الفلسفة اليونانية.

لا أنكر أنّ العقل الإسلامي ظلَّ متقوقعاً حول الفقه ودراسة الدين، ولم يتجاوز ذاته، ليفتح أفقاً جديداً للتفكير يساهم بشكلٍ كبير في إغناء محتوى الفلسفة الإسلامية، التي ظلّ طموحها صغيرا، وهو تحقيق الحكمة والشريعة وأن يصبحا معاً في انسجام وتناسق. هذه أبرز المؤاخذات التي تطال الفلسفة الإسلامية في كلّ حين.

الفلاسفة المسلمين في العصر الوسيط تكبدوا عناء البحث والتقصي، واشتغلوا في عدّة أمور كانت تخصُّ حياتهم اليومية، لعل أبرزها هو الشق السياسي، فالسياسة هي قضية لا يحملها أحد على عاتقه إلّا إذا كان واقعه السياسي متشرذما ويقفُ على شفير الهاوية. السياسة هي فنّ تدبير شأن المجتمع، لكن إذا كان صاحب السلطة السياسية متغطرساً، يحكم بدون عدل، فلا بد أنْ تُكسر أنفة الدب الداشر حتى تهتزّ غطرستهُ اهتزازا. في الشق السياسي، سأشتغل على موضوع شائك ومُستعص غير متداول بشكلٍ كبير، وهو القانون الطبيعي عند المسلمين، أي كيف نظّروا له؟ وسأطرحُ نموذجين لم أخترهم اعتباطيا بل لمكانتهم المرموقة، ولاهتمامهم الكبير بالشأن السياسي بكل تشعباته.

قبل الغوص في هذا الموضوع، في شقّه الإسلامي، يستوجبُ عليّ أن أضع أرضيّة حول القانون الطبيعي عند اليونان (أفلاطون وأرسطو)، ثم مع المدارس الثلاث (الرواقية، الكلبية، الأبيقورية) التي قامت باكتشافٍ مبهر، وهو اكتشاف الفرد الذي فقد ذاته بعد غزو الإسكندر المقدوني مدينة أثينا، فخرّبها، وجعلها تتخبّطُ في مآس كبيرة، ودمّر حياة الفرد الإغريقي، وخلّف في نفس الفرد تيها لا مردَّ له. ثم إعطاء تعريف شيشرون للقانون الطبيعي الذي يُمثل محطة سياسية كبرى تركت إرثاً لا يُضاهى ولا يُداس في تاريخ الفكر السياسي، وواكب أيضاً مجريات التحول السياسي الذي عرفتهُ الإمبراطورية الرومانية. بعد هذه الإشارات البسيطة سأدخل غمار جوهر الموضوع؛ القانون الطبيعي عند المسلمين.

المدينة في تصور فلاسفة اليونان، أفلاطون وأرسطو، عبارة عن مجموعة من القوانين التي تُنظِّم المُجتمع، وكان يُنظر للفرد فيها باعتباره حيواناً اجتماعياً وسياسياً، وبالتالي يجبُ عليه العيش في المدينة بالضرورة وأخذِ سِماتها والانصهار فيها، بهذه الوسيلة فقط يُمكنهُ أن يُحقِّق الخير والكمال والانسجام. الفرد في الأصل، يسعى للكمال والخير وهذا السعي لا يتحقّقُ إلّا بالانسجام مع روح المَدينة.

القانون الطبيعي في تلك الحقبة، اُعتبر قانوناً شاملاً يحكمُ الكون وبالتالي يجبُ على المدينة أن تتبنّاه، وحتى القوانين التي سنَّها الإنسان، حتى تكون قوانين نافذة، لا بدّ أن تنسجم مع القانون الطبيعي. نعلمُ أن حمورابي حاكم بابل في سابق العصور، قبل الميلاد، هو أول من سنّ القوانين، لكنّها قوانين تخدم مصلحتهُ كحاكم، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، فهي قوانين لم تكن معيارية، أي أنّها قوانين استلهمها من الآلهة ولم تكن مُطابقة لما يعيشه النّاس في الواقع، ولم تكن مُواكِبة لراهنهم، ثم غياب المشاركة السياسية في صفوف الأفراد. في حين أنّ بلاد الإغريق تميّزت بالقوانين التي ظلّت لصيقة بالواقع وبما يعيشهُ الإنسان، ثم بزوغ فكرة المشاركة السياسية التي كانت منعدمة عند الحضارات القديمة (البابلية خيرُ مثال).

العدالة عند أفلاطون لا تقومُ على مبدأ المساواة بل تتأسّسُ على مبدأ آخر وهو الانسجام مع القانون الطبيعي كقانونٍ أسمى. نلاحظ هنا أن أيّ مفهوم سياسي ابتدعهُ أفلاطون إلّا ويخضع للقانون الطبيعي، هذا القانون يتّصفُ بالإكراه والحتميّة. أمّا نظرية أرسطو السياسية فهي ترتكزُ على النّاموس (آلية تطبيق القانون الطبيعي) باعتبار أنّ المدينة تخضعُ له، أي القانون الطبيعي، ومن هنا فإنّ العقل يجبُ أنْ يكون أيضاً مُنسجِماً ومُتوازياً مع القانون الطبيعي.

سأنتقل الآن إلى المدارس التي اكتشفت الفرد وأعلت من شأنه، واعتبرته أنّه ليس مُلزماً بالخُضوع للآخرين وباستطاعته أنْ يشقّ طريقهُ لوحده، والسعيُ للكمال لا يتحقّقُ بمزيدٍ من الفردانية (L’individualisme) بل يتحقّقُ بالانصهار الكُلّي للأفراد في المدينة. إنّ احترام حقوق الفرد في اليونان كان جُزئياً، لأنّ المجتمع الإغريقي أقصى بعض الفئات وبقيت هذه الحقوق حِكراً على الذين يدفعون الضرائب، وبالتالي فالحُقوق الفرديّة كانت منسيّة نظراً لهيمنة القانون الطبيعي، ثم التمييز الشّنيع بين فئات المُجتمع.

الفرد الإغريقي كان عاجزاً على تصوّر نفسه خارج المدينة، وعندما فقد مظلة المدينة بعد غزو الإسكندر المقدوني لأثينا، هنا بالضبط اكتشف الفرد ذاته وطرح سؤال القيم والوجود، ووجد نفسه يبحثُ عن الماهيات دون هوادة. المدرسة الأبيقورية أكّدت بأنّ الفرد لم يكتشِف الوعي بالفرد بجهده، بل إنّ الحروب هي التي أدّت إلى فقدان الاستقلال ممّا سيؤدي إلى اكتشاف الفرد الذي كان مُضطرّاً لمواجهة مصيره. في حين نجد أنّ الهدف الأساسي للرِّواقي هو الوصول إلى حالة الطمأنينة التي تتحقّق عند الحكيم (هو الذي ينظر إلى الماهيات في جزئيتها وهذا ما يُمكنُهُ من فهم نظام هذا العالَم) وتجعلهُ مُنسجماً مع الواقع. حتى يتمكّن الحكيم من بلوغ حالة الطمأنينة فإن هذا البلوغ مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالانسجام مع روح القانون الطبيعي.

المدرسة الكلبيّة نظرت إلى الفرد كقيمة عليا تُشكل مرتكزاً أساسياً للمُجتمع لا يمكنُ الاستغناء عنه، فالفرد، في نظرها، هو أيقونة المجتمع. أقرّت بالفرد وبحقوقه الفردية (حرية التفكير، حرية الاعتقاد، حرية التعبير وإبداء الرّأي…)، وأنّ كل فرد له الحقّ في الوصول إلى الحكم، لكنه ملزم بالخضوع للقانون الطبيعي، باعتبار هذا القانون يحكم الكون، وتخضع له المدينة، كما يخضع له الأفراد كآخر حلقة بعد الحلقة الكبرى (الكون)، ثم تليها حلقة المدينة.

يعدُّ شيشرون محطّة هامّة في تاريخ الفكر السياسي، وقد عرّف القانون الطبيعي بإيجاز قائلاً “القانون الطبيعي هو القانون المثالي الذي يتكون من مجموعة من القواعد عامّة وأبديّة وثابتة موجودة في الطبيعة، لا تتغيّرُ بتغيُّر الزمان والمكان”. نستشفُّ من هذا التعريف، أنّ شيشرون هو امتدادٌ أساسي لأفلاطون وأرسطو، وامتداد أيضاً للمدارس الثلاث.

الفارابي

أثناء بحثي في موضوع القانون الطبيعي، اكتشفتُ بأن القانون الطبيعي لم يقدم هكذا، وبهذا الاسم، بل وُضِعت له عدة مُقابلات ومنها: القانون الإلهي، الوحي، الوحي الديني. بذل الفارابي جهداً جادّاً ومُضنيا من أجل التصدي للفلسفة السياسية الكلاسيكية وربطها بالإسلام حتى تُصبح منسجمة انسجاماً تامّاً مع الدين الذي أُوحي به للنّبي محمد وبلّغهُ، هذا الدين -في نظر الفارابي- هو صورة للقانون الإلهي.

كلّ من اطّلع على أعمال الفارابي البديعة التي أمتع فيها القارئ العربي، وجعلهُ يسبرُ في أغوارها ويتفحّصُ الأفكار بتأنٍ وبعنايةٍ شديدين. وفي أعماله الشهيرة: المدينة الفاضلة، نظام الحُكم السياسي، الدين الفاضل، بيّن فيها المساحة الواسعة للانسجام الذي يُوحّد بين قانونهم الإلهي والمقصد العملي للفلسفة السياسية الكلاسيكية. إنّ هؤلاء القرّاء يستطيعون من ثم أنْ يروا في قانونهم الإلهي إنجازاً عملياً لنظريات القُدماء الأكثر حكمةً [ ليو شتراوش، جوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، الجزء الأوّل، ترجمة محمود سيّد أحمد، 2005، ص 307].

ناقش الفارابي الحاكم بالتشديد على الوظيفة العامّة للفيلسوف-الحاكم، والنّبي-الحاكم، حيث هما يُمثّلان همزة الوصل بين الموجودات الإلهيّة العُليا والمُواطنين لا يقتربون اقتراباً مباشراً من معرفة هذه الموجودات. هكذا يُوحِّد الفارابي بين النّبي-الحاكم والفيلسوف-الحاكم إلى حدٍّ كبير، فكلاهما حاكمٌ أسمى بصورةٍ مُطلقة وكلاهما يمتلكُ سلطةً مطلقة من جهة تشريع المُعتقدات والأفعال، وكلاهما يكتسبُ سُلطتهُ بفضل كمال ملكتِها العاقلة، وكلاهما يتلقى الوحي من الله عن طريق فاعليّة العقل الفعّال [المرجع نفسه، تاريخ الفلسفة السياسية، ص 315].

نادرةٌ وشحيحةٌ هي النُّصوص العربية التي تحدثت بإسهابٍ عن القانون الطبيعي كقانون سامٍ يعلو ولا يُعلى عليه، والنّظر إلى هذا القانون لا يكون من زاوية اللّاهوت بل يكون من خلال زاوية عقلٍ متمرِّس يُجيد التفكير الجيّد، وأنْ يكون مُؤهلاً لإدراك القيم. والباحث في الفكر الإسلامي يجدُ فكرة شبيهة بفكرة القانون الطبيعي التقليدي وهي فكرة تُعرف بمسألة التحسين والتقبيح العقليين وهذه المسألة تحمل في طياتها مبدأين:

أولا افتراض الحسن الذاتي أو القبح الذاتي في الأشياء بمعنى أنّ الأشياء تحملُ معها صفة الحسن والقبيح، وثانياً العقل البشري مُؤهلٌ لإدراك تلك القيم الثابتة ولإصدار أحكام عقليّة بمُقتضى إدراكه [محمّد شريف أحمد، فكرة القانون الطبيعي عند المسلمين (دراسة مقارنة)، منتدى الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، ص 25].

إنّ القانون الطبيعي هو قانون شمولي يعمّ أرجاء العالَم، يسود ويبسط قبضتهُ على أمور الحياة في استعلاء كبير. وهو غير قابل للمرجعة أو التغيير، مهما اختلفت الأزمنة والحِقب، فإنّه يظلُّ راسخاً. يمكنُ إذن أن نُسميه أيضاً القانون الأزلي، لأنّه لا يتغير تحت أيّ ظرفٍ كان.

ابن رشد

بعد الفارابي، بحثت عن بعض الإشارات التي ستقودني إلى كل ما له علاقة بالقانون الطبيعي عند ابن رشد الذي يحتلُّ مكانة فريدة في تاريخ الفكر السياسي في العالم الإسلامي. انصبّ اهتمام ابن رشد على السياسة، ووفّر وقتا خاصاً لها، درس القانون وكان مُلماً بخصوصياته وحيثياته، وكان أدرى بأمور السياسة، لذلك اخترتهُ كأنموذج، كما أنّ له إسهام لا بأس به بخصوص موضوع هذه الورقة البحثية. كانت نظرةُ ابن رشد إلى الشرائع تتسمُ بالعُمق، ولم يقف على الأمور السطحية أثناء تحليل للشرائع.

عرّف ابن رشد الشرائع قائلاً “إنّ الشّرائع هي الصناعة الضرورية المدنية التي تُؤخذُ مبادئها من العقل والشّرع، ولا سيما ما كان منها عامّاً لجميع الشرائع وإنْ اختلف بذلك بالأقل والأكثر” [ابن رشد، تهافت التهافت، الطبعة الأولى، المطبعة الإعلامية، مصر، 1302 هـ، ص 139].

نستشفُّ من قول ابن رشد هذا، أنّ القانون هو صناعةٌ حتميّة مدنية، وأنّ المجتمع، في أيّ كيانٍ جغرافي، لا يمكنُ أن يصِل إلى مُبتغاه (وجوده) الذي يُفضي مباشرةً إلى تحقيق السعادة، التي تعدُّ حلم كل إنسانٍ يمشي على الأرض، إلّا عن طريق إبداع صيغ قانونية وظيفتها الأساسية السهر على شؤون المجتمع حتى ينعم بالاستقرار ولا يجتاحهُ دبيبُ الفوضى. وعلى ذِكر مفهوم السعادة، فإنها لا تتحقّقُ بشكلٍ كلّيّ، حسب ابن رشد، إلّا بشريعة تأخذُ بمبادئ العقل وتسترشدُ بالوحي السماوي، أي بقانون يصدرُ من العقل والشّرع.

ابن رشد هو قامة فلسفية تميّزت بالإبداع في الجانب السياسي، عبر تعقُّب أساس القانون ومرتكزاته التي يقومُ عليها، لأنّه يعرفُ مدى أهميّة القانون في تنظيم المُجتمع، وتسيير أمور الشعب بشكل عادل. وله أيضاً فضل كبير في الجمع بين الشريعة الحقّة وبين الفلسفة. ما توصّل إليه ابن رشد، أي الجمع بين الشريعة والفلسفة لا يمكنُ التغاضي عليه، وإلّا سنُمارس إقصاءً مُجحفاً في حقِّه.

انخرطُ ابن رشد في تيارين:

ـ التيار الأوّل: هو أنّ مبادئ وقواعد عامّة لا تخلو أي شريعة منها، باعتبار أنّها مبادئ ضرورية يُدركها العقل البشري، ويستخلصُ ضرورة تلك المبادئ من الحاجات الأساسيّة للإنسان، وهذه المبادئ هي ما نُسميها بالقانون الطبيعي، الذي يضمُّ القواعد التي يستخلصُها العقل البشري من حيث أنّه عقل من طبيعة الأشياء والذي لا يستطيع أيّ شرعٍ التنكُّر لها.

ـ التيار الثاني: هو المبادئ التي يُقرِّرها ويُحدِّدها القانون الإلهي. [المرجع نفسه، فكرة القانون الطبيعي عند المسلمين، ص 183، 184]. بعد بحثٍ عثرت على فكرة هامّة، وهي أنّ القانون الإلهي شكّل في الفترة التي عاش فيها ابن رشد (القرن 12م) موجة كاسحة لا رادّ لها، وتمّ تداول المفهوم على أوسع نطاق، وانتشر بسرعة، كسرعة النّار في نشارة الخشب، كما تم وضع مقابلٍ له (الوحي الديني)، فتسبّب في حدوث رجّة كبيرة.

أكّد ابن رشد في العديد من نُصوصه، وبإقرارٍ كبير، على أنّ الشريعة المُتكاملة يصعبُ تحقيقها خارج ظلِّ اللبنة الأساسيّة للقانون وطبيعته، إلّا إذا كانت الشّريعة صناعة العقل والوحي معاً.

وضّح ابن رشد هذه المسألة بإسهابٍ كبير في كتابه تهافت التهافت، ولكنّني سأقتصر على نصٍّ قصير يقول فيه “وكلُّ شريعةٍ كانت بالوحي فالعقلُ يُخالطها، ومن سلّم أنّه يُمكنُ أنْ يكون ههنا شريعة بالعقل فقط فإنّه يلزم ضرورة أن يكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي” [المرجع نفسه، تهافت التهافت، ص 140].

نفهم من كلّ ما سبق أنّ إقرار ابن رشد بفكرة القانون الموجود في طبيعة الأشياء هو إقرارٌ قد لا يختلفُ حوله اثنان، بيد أنّ هذا الإقرار يأتي مُتناسقاً ومُرادِفاً لنظرته إلى “فلسفة الشّرائع”.

كما يأتي متسقاً مع رأيه في الحتميّة السببيّة حيث ذهب إلى أنّ الله سبحانه قد أودعَ طبيعة الأسباب الضرورية التي تكمنُ وراء المُسبِّبات، وأنّ من جحد الأسباب الضرورية فقد جحد الصانع، ليس هذا فقط، بل جحد العقل أيضاً. يتضح لي هنا اختلاف كبير بين ابن رشد والإمام الغزالي، هذا الأخير أنكر إنكاراً حقيقياً جدوى العلل (أسباب مُؤثِّرة بالنّسبة إلى النتائج والمسببات) [ المرجع نفسه، فكرة القانون الطبيعي عند المسلمين، ص 189].

إنّ القانون الطبيعي يتّصف بالضرورة والحتمية كالأمراض والحروب والعبوديّة والموت. وعند إدراك روح القانون الطبيعي، الذي لا يمكننا الفرار من حتميته، نَلِجُ هامشاً من الحرية التي ينفيها القانون الطبيعي نفياً تامّاً. الفلاسفة المسلمون قاموا ببحث يليقُ بقيمتهم ومكانتهم الثقافية في تاريخ الفكر الإسلامي، وأنا متأكد أنهم اطّلعوا على تصور أفلاطون وأرسطو بخصوص القانون الطبيعي كفكرة مارست قهراً وحيفاً على الإنسان. بعد الاطلاع على ما كتبوه في هذا الموضوع، خلُصتُ إلى فكرةٍ مفادها أنّ الأقدار التي تُصيب الإنسان، والمصائب التي تجتاحه أحيانا، وحينا آخر تغمرهُ سعادة لا يُقايضها بأموال الدنيا، كل هذه الأمور هي نتيجة لقانون يتحكّم في الكون وفي مجريات حياة الإنسان بأكملها، ومن المستحيل الانفلات منه، لأنّه حتمي، فالموتُ مثلاً تنتظر كل من تدبُّ فيه الروح، تنتظره ولو عمّر في الدنيا عشرات العُقود، لا خلاص منها. هكذا هو القانون الطبيعي. رغم اختلاف التسميات، فإنّ المعنى واحد، ولو أنّنا لم نجد إلاّ إشارات قد لا تقودك إلى بيت القصيد مباشرةً، بيد أنّ المهارة الفلسفية تتميّز بالربط بين الأفكار ثم الاطلاع على السياق التاريخ لأنّ له دور جوهريٌّ وحاسم في عدّة أمور. هذا الموضوع صراحة، فكرة القانون الطبيعي عند المسلمين تحتاجُ للمزيد من البحث والتقصي من طرف المفكرين والباحثين العرب حتى يتم إغناء رصيد القارئ العربي وإزاحة ذلك اللبس الذي يكتنفهُ.

إشارات إلى مصادر ومراجع:

ـ أحمد، محمد شريف، فكرة القانون الطبيعي عند المُسلمين (دراسة مقارنة)، منشورات منتدى الفكر الإسلامي، العراق، الطبعة الأولى، 2011.

ـ ابن رشد، تهافت التهافت، الطبعة الأولى، المطبعة الإعلامية، مصر، 1302 هـ.

ـ شتراوش، ليو، كروبسي، جوزيف، تاريخ الفلسفة السياسية، الجزء الأوّل، من ثيوكيديديس إلى اسبينوزا، ترجمة محمود سيّد أحمد، مراجعة وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.

ـ فخري، ماجد، تاريخ الفلسفة الإسلامية (منذ القرن الثّامن حتى يومنا هذا)، نقله إلى العربية كمال اليازجي، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 2000.

تم عمل هذا الموقع بواسطة