إعادة نظر في علاقة الفن بالفلسفة
أحاول في مقالتي كمقدمة عامة عن”ميتافيزيقيا علم الجمال” أن أصف حالة فلسفة الفن اليوم وأنظر إلى تطورها المستقبلي. لقد اهتمت فلسفة الفن التحليلية بالأسئلة الأربعة التالية: ما هو جوهر الفن؟ ما هو الوضع الأنطولوجي للأعمال الفنية؟ ما هي الصفات الجمالية وكيف نتعرف عليها؟ هل لدينا أحكام قيمة جمالية موضوعية؟ سوف أشرح، في الخطوة الأولى، لماذا فشلت الفلسفة التحليلية للفن في الإجابة عن هذه الأسئلة وما علاقة هذا الفشل بنهاية تاريخ الفن. أحاول، في الخطوة الثانية، تقديم تعريف للفن يسمح بإثبات أن هذا الفشل ونهاية الفن أمران لا مفر منهما. أخيرًا أحاول -كنتيجة لذلك- تحديد الملامح العامة لفن المستقبل.
احتلت فلسفة الفن وعلم الجمال مكانة مهمة في الفلسفة التحليلية بدءا من النصف الثاني من القرن الماضي من خلال محاولتها تقديم أجوبة عن الأسئلة التالية:
يبدو واضحًا لي الآن، أن الإجابات التي المطلوب تقديمها عن السؤال الثالث والرابع تعتمد على الإجابة التي نقدمها عن السؤالين الأول والثاني. لقد عانت فلسفة الفن من انعكاسين حادين كانا يمثلان، من وجهة نظر البعض، كوارث حقيقية في نهاية القرن الماضي.
وقد حدثت إحدى هذه الكوارث في الفلسفة نفسها والآخر حدثت في الفنون ذاتها. لقد كانت الكارثة التي وقع فيها الفلاسفة هي كان عليهم أن يعترفوا بفشلهم التام في تحديد جوهر الفن، وكانت كارثة الفن أو التي جاءت من داخل الفن هي تلك التي قام فيها الفنانون، أو بالأحرى أولئك الذين يكسبون المال من خلال الفن، وهذان الكارثتان هما مايسميان بــ”نهاية الفن” أو بشكل أكثر دقة “نهاية تاريخ الفن”. ترتبط كلتا الكارثتين ببعضهما البعض وفي الوقت نفسه يناقض بعضهما البعض. أريد أن أشرح ذلك بشكل مختصر.
1 – حاول الفلاسفة منذ أفلاطون، تحديد جوهر الفن وكذلك جوهر أنواعه المختلفة. لكن تعرضت الإجابات التي قدموها لتحديات عندما تطورت الفنون جراء ما أصابها من تغيير جذري؛ وقد جاء هذا التطور أولاً مع تطور الفن التجريدي ثم مع “نوافير” دوشامب. وقد قال نيلسون جودمان في كتابه الشهير “طرق صناعة العالم”، تحت تأثير هذا التحدي، يعود سبب ذلك إلى أن الفلاسفة طرحوا السؤال الخطأ. فبدلاً من السؤال “ما هو الفن؟” كان يجب عليهم أن يسألوا “متى يكون الفن فناً؟” ثم قام آرثر دانتو في كتابه ذائع الصيت “بعد نهاية الفن” بخطوة أخرى عندما قال إن “كل شيء يمكن أن يكون فنا. ونحن نقول إذا كان هذا صحيحًا، فلا يوجد جوهر فني يمكن أن يعثر عليه الفلاسفة بعد الآن، أو قد نضعه بطريقة المفارقة: إن جوهر الفن هو عدم وجود أيّ جوهر.
2 – اتّبع آرثر دانتو في مقالته ” الاقتراب من نهاية الفن” أثر هانز بيلتينج في كتابه، “نهاية تاريخ الفن” الذي أكد فيه أن الفن ليس له جوهر. ويفترض من ناحية التاريخ أن بعض الموجودات المحددة يمكن أن تحقق تقدمًا نحو الغاية النهائية بمقتضى جوهرها. لذلك، وفقًا لدانتو في كتابه “بعد نهاية الفن”، كان تاريخ الفن في مرحلته الأولى تاريخ التقدم في تمثل العالم الواقعي. وهذا يفترض مسبقا مفهوم للفن باسم “المحاكاة”. وكان التقدم في مرحلته الثانية تمثل الفن نفسه وتمثل وسائله. هذا يعني أن الفن يُصوَّر على أنه نوع من أنواع التأمل الذاتي. ومع ذلك، بمجرّد أن يصبح كل شيء فنًا يفقد الفن أي تحديد جوهري لذاته، ولم يعد هناك أيّ سبيل لإحراز تقدم في تحقيق ما يُتصوَّر به أنه الفن. والنتيجة الحتمية لذلك هي نهاية تاريخ الفن. من المهم التأكيد على أن نهاية تاريخ الفن لم تكن ناجمة عن الفلسفة بل ناتجة من الفن نفسه. لأنه كان هناك فنانين مثل دوشامب أوضحوا من خلال أعمالهم أن كل شيء يمكن أن يكون فنًا.
غير أنه لدينا مشكلة هنا. إذا كان جوهر الفن هو عدم وجود جوهر وإذا كان تاريخ الفن مستحيلًا، فكيف وصلنا في الواقع إلى تاريخ الفن الذي استمر لقرون وهو الهدف الحقيقي لمسعى مؤرخي الفن؟ هناك طريقة واحدة فقط للخروج من هذه المعضلة في رأيي. ولقد وجدت تلك الطريقة من خلال التفكير في الدور الذي تلعبه الفلسفة في تاريخ الفن. كان فهم الفنانين لما كانوا يفعلونه متأثرًا، منذ البداية، وإلى حد كبير بما قاله الفلاسفة حول ما يجب أن يكون عليه الفن. لقد كان الفنانون يرغبون، في وقت ما، في تقليد الواقع ومحاكاته، ذلك فقط لأن بعض الفلاسفة البارزين قد عرّفوا جوهر الفن على أنه محاكاة، حيث سعى الفنانون، وبدلاً من إبداع فنون جديدة لم تكن موجودة سابقاً، إلى جلب المحاكاة إلى الكمال أو على حد تعبير آرثر دانتو، لإنتاج “تمثلات بشكل متزايد عن العالم”. لقد أخذ هذا المسعى فترة طويلة من محاولة الإبداع الفني وأدى إلى ظهور أول نوع من تاريخ الفن. وحتى عندما بدأ الفنانون في نهاية هذه الفترة في التوجه الى مدرسة الفن للفن، أو الدعوة إلى الفن من أجل الفن، والتفكير في الشروط والأوضاع المادية لصناعة الفن، كان لا يزال نموذج الفلسفة يمثل الانعكاس لشروط وأوضاع الفن الخاصة ولا تزال مفاهيم فلسفة الفن توجه فترة جديدة من تاريخ الفن. أخيرًا، قام الفنانون في بداية القرن العشرين بمحاولات إبداع أفكار جديدة وغير عادية أو تجريبية في الفنون، وكان كل واحد منهم مقتنعا بأنه وجد الفن الحقيقي، وكان المحرك الحقيقي لهذه التغييرات الجذرية في الفن هو الفكرة الفلسفية المتمثلة في وجود جوهر للفن وبالتالي فإن هناك فنًا حقيقيًا واحدًا لا بد من العثور عليه إذا لم يكن موجودًا بالفعل او غير موجود لحد الآن.
إن النتيجة التي نستخلصها من ذلك هي أن الفن -حتى نهاية القرن الماضي- استمر في حالة سوء فهم لطبيعته بسبب الفلسفات السابقة، وأن سوء الفهم هذا جعل “التاريخ” ممكنًا. لم يكن تاريخ الفن سوى محاولة لإدراك “جوهر” الفن المفهوم بطريقة غير صحيحة، وقد تبين لاحقاً أن نهاية الفن هي نهاية سوء الفهم هذا، الذي شجبه الفن نفسه وتمكن بالتالي من التغلب عليه. وهكذا تتزامن فكرة نهاية تاريخ الفن مع اكتشاف الطبيعة الحقيقية للفن. ومن هنا جاء الفن وتشكلت طبيعته بذاته أو من خلال نفسه. ومن هذا الموقع يمكن للفلسفة أن تأخذ علما بذلك وتحاول تفسيره لاحقاً لا أن تحدد طبيعته مسبقاً. هذا هو السبب في وصول غاية تاريخ الفن نهايتها. فما أن يتم اكتشاف سوء الفهم الذي جعل التاريخ ممكنًا والتغلب عليه لم يعد هناك أيّ أساس للتطور التاريخي. وللسبب ذاته، لم تعد الفلسفة متحكمة في الفن، وبالطريقة نفسها فقد الفلاسفة كلمتهم العليا فيما يتعلق بمستقبل الفن.
ماذا يمثل هذا الموقف بالنسبة إلى مهمة فلسفة الفن اليوم؟ هل أصبح لا لزوم لها وأصبحت خارج الاستعمال؟ هل يجب أن نتخلى عن قول أيّ شيء بخصوص جوهر الفن؟ أعتقد أن الدرس الأول الذي تعلمناه هو، يجب أن تتخلى الفلسفة عن الإملاء على الفنانين فيما يجب عليهم فعله. المطلوب هو تحرير الفن وانعتاقه حقاً وكليًا وبشكل معترف به عالميًا. إنه لمن المفارقة أن يأتي هذا نتيجة التعريف والحكم الصحيح لجوهر الفن، وأن على الفلسفة أن تعترف بذلك على ضوء الأحداث المذكورة أعلاه. ولكن كيف يمكن أن يستنتج من التأمل في جوهر الفن أن الفن ليس له جوهر؟
أنا مقتنع، في الواقع، ولأسباب لا يمكنني تطويرها هنا، بأن ما هو ذو علاقة وثيقة بالفن، ليس البحث عن الحقيقة أو السعي إلى الخير الأخلاقي، ولكن حبّ اللعب. الفن، مثل اللعب، هو نشاط نشترك فيه فقط من أجل الفن نفسه والسرور الذي نكتسبه منه. وأن هذه السرور في كلتا الحالتين هو بداية تجربة لبراعتنا، وحسن الحظ والنجاح في إنجاز مهامنا الصعبة ومساعينا. لكن لا تُفرض هذه المهام والمساعي على اللاعب أو الفنان من الخارج ، بل هي خياره الحر. تتمثل حرية الاختيار في ثلاث نقاط: أولاً وقبل كل شيء ما يتعلق باختراع قواعد اللعب والاتفاق عليها، وثانياً ما يتعلق بالمشاركة في اللعب، وأخيراً وليس آخراً ما يتعلق باختيار الاستراتيجيات والحلول المكتشفة لإنجاز مهام اللعب بأكثر الطرق أناقة وممكنة.
لهذا السبب، يلعب الفن دوراً حاسماً في البحث عن معنى الحياة. نحن لا نعيش من أجل أن نعمل؛ نحن نعمل من أجل كسب العيش. والشعور الأخير هو السماح لنا أن نفعل ما نريد أن نفعله بهذا القصد. إن الاستمتاع بالفن هو نشاط نقوم به من أجل ذاته بامتياز. وإلاّ كيف ستكون مملة حياتنا دون ملذات الفن واللعب؟
هذه هي الخطوط العريضة لجوابي عن السؤال الأول من فلسفة الفن المذكورة أعلاه. إذا كنت على صواب في هذا، فإن نهاية الفن لا تجعل فلسفة الفن بلا معنى. على العكس من ذلك ، يفتح تعريفي طريقة للإجابة على الأسئلة الثلاثة الأخرى أيضًا.
بالنسبة إلى السؤال الثاني، لا أعتقد أن جميع العناصر التي تُعتبر عادةً بمثابة أعمال فنية لها الوضع الأنطولوجي نفسه. علينا على الأقل التمييز بين الأنواع الثلاثة التالية: (1) اللوحات والمنحوتات والمباني والحدائق وما إلى ذلك؛ (2) المهرجانات والحفلات الموسيقية والعروض المسرحية والقراءات والعروض وما إلى ذلك؛ (3) النصوص والأفلام والسيناريوهات النصية، وهكذا دواليك. إن أعمال من النوع الأول هي المواد الفردية. ثم تأتي الصفات الجمالية بعد الخصائص الفيزيائية لهذه المواد وفقا لسياق جمالي معين. أعمال النوع الثاني هي أحداث فردية تتبع قواعد جمالية محددة. النوع الثالث من الأعمال الفنية يتكون من كائنات مجردة، أي أنواع من الرموز التي هي أعمال من النوع الثاني. من الواضح أنه وفقًا لمفهوم الأعمال الفنية من النوع الثاني فهي تمثل جوهر الفن، بينما تلعب الأخرى دورًا إضافيًا -وإن كان مهمًا للغاية- في هذا الصدد.
للإجابة على أسئلتي الثالث والرابع أستفيد من التشابه بين الأعمال الفنية والألعاب. تتكون الألعاب من ثلاثة أنواع من القواعد: (1) القواعد الدلالية، (2) القواعد التي تسمح أو تمنع أنواعا معينة من الأفعال، (3) قواعد تحديد المهام. يؤسس الأول دلالات ما يتصل باللعبة عن طريق الاتفاقية. يحددون في كرة القدم، على سبيل المثال، أي نوع من الفعل هو “تسجيل النقاط، أي تسجيل الأهداف”؛ وأيّ نوع من الفضاء الذي هو “ملعب لكرة القدم”، وأيّ نوع من الممثل الذي هو “لاعب” إلخ.
هذا ما يفسر إشراف أنواع معينة من الخصائص غير المادية على الخصائص الفيزيائية. يسمح لنا النوعان الثاني والثالث من القواعد بالإجابة عن السؤال حول موضوعية أحكام القيمة الجمالية. يضع النوع الثالث من القواعد مهام معينة على المشاركين في اللعبة، على سبيل المثال لتسجيل أكبر عدد ممكن من الأهداف ومنع الخصم من فعل الشيء نفسه. النوع الثاني من القواعد يجعل هذه المهمة صعبة من خلال منع لمس الكرة باليد مثلاً. هذان النوعان من القواعد هما المعايير التي يمكن للمراقب من خلالها تحديد ما إذا كان اللاعب قد لعب جيدًا أم لا. تتعلق أحكام القيمة هذه بقواعد ثابتة تقليدياً، لكنها مع ذلك موضوعية. والآن، إذا كان التشابه بين الفنون والألعاب قائماً، أي إذا كان النمط ليس سوى مجموعة من القواعد من الأنواع الثلاثة، فيمكننا بسهولة شرح أشراف الخصائص الجمالية على الخواص الفيزيائية وتبرير موضوعية أحكام القيمة الجمالية النسبية للأسلوب.
يلقي التشابه بين الألعاب والفنون ضوءًا جديدًا على الأعمال الفنية من النوع الأول. نحتاج من أجل لعب لعبة معينة نوعا معينا من الملاعب والأدوات. وينطبق الشيء نفسه على النوع الثاني من الأعمال الفنية. ونحتاج من أجل تنفيذ نوع معين من النشاط الجمالي، إلى مساحة كافية وإلى أدوات كافية. إن الأعمال الفنية من النوع الأول هي بالضبط هذه المساحات والأدوات. أما بالنسبة إلى الحدائق والمباني، عندما يتم تنسيقها وبناؤها من أجل وظيفة جمالية محددة، فهي الأماكن التي نشارك فيها في الأنشطة الجمالية، واللوحات والمنحوتات هي الأدوات والألعاب التي نستخدمها في هذه الأنشطة.
أريد أن أضيف بعض الملاحظات حول مستقبل الفن. وكما قلت في البداية، على الفلسفة أن تتخلى عن إملاء ما يجب على الفنانين فعله. لكن هذا لا يعني ليس للفلاسفة الحق في التفكير في الفن وفي مستقبله، بل عليهم القيام بذلك. لذا، ما الذي يبدو أنه مستقبل الفن في ضوء ما قلناه حول جوهر الفن وتاريخ الفن؟ أرى أن الخصائص الأربع التالية للفن الجديد هي النتيجة الحتمية لنهاية تاريخ الفن، وقد تم بالفعل تشخيصها من قبل آرثر دانتو: في كتابيه المشهورين “ما وراء صندوق بريلو: الفنون البصرية في منظور ما بعد التاريخ”. و”بعد نهاية الفن: الفن المعاصر والتاريخ الشاحب” وهي:
وأريد أن أشرح ما أعنيه بهذه الخصائص الآن.
إن النتيجة الأولى لنهاية تاريخ الفن هي فقدان رواد الطليعة دورهم كمحرك للتقدم التاريخي. وكذلك أوضح أيضاً حاجة كل طليعي جديد إلى التغلب على الأسلوب السائد واستبداله بنمط جديد كما كان هذا سائداً في نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين، كان يتحقق هذا من خلال رفض قواعد ولوائح الطراز القديم وإنشاء قواعد ولوائح جديدة للنشاط الإبداعي للفنانين الذين ينتمون إلى المجموعة الطليعية. وكانت الطريقة الأكثر إثارةً لصنع مثل هذه الثورة هي نشر مانفستو “بيان”، يعبر فيه الطليعي عن إدانته للفن القديم ويحدد طريقته الجديدة في الإبداع الفني، معلنًا أن الفن الجديد هو الفن الحقيقي الوحيد. ومع ذلك، فإن إنشاء قواعد ولوائح جديدة لم يتم بالضرورة من خلال بيانات نظرية واضحة -كما هو الحال في المانفستو- ولكن يمكن تحقيقه من خلال الأعمال الفنية الجديدة نفسها أيضًا، والتي قد وضعت، كأمثلة ونماذج، ضمنًا قواعد ولوائح جديدة. وقد أدى الإطاحة بواحد من الطليعة، خلال القرن العشرين، إلى تسريع وتيرة حركة الطليعة ذاتها بشكل كبير. وفي النهاية، يمكن للمرء أن يرى وصول طليعي جديد كل عام تقريبًا. وهكذا قد انتهى الحال. فعلى الرغم من ظهور أنماط جديدة جذريًا وادعاء كل مجموعة جديدة من الفنانين بأنها الطليعة الجديدة، إلا أنه لن يكون هناك طليعة جديدة بعد الآن.
ما هو سبب هذا البيان الجريء؟ لماذا يجب أن نرفض حالة الطليعة لهذه المجموعات؟ إن الفرق الحاسم بين هذه المجموعات والطليعي الحقيقي هو أن هذا الأخير – يشبه تحديد النفي في فلسفة هيجل- يفترض مسبقاً وجود أسلوب سابق كونه جزءًا من التاريخ نفسه، ونجد هذا “السرد” نفسه في كلمات آرثر دانتي بطريقة يمكن أن يـُفهم فيها النفي على أنه تقدم. لا يمكن اعتبار أيّ تغيير بمثابة تقدم، ولا حتى الإبداعات أو الابتكارات الجديدة الأكثر تطرفًا بعد نهاية التاريخ. لذلك، حتى لو كان أحد الأساليب يستثني الآخر وبالتالي ينفيه، فإن هذا النفي لا يستدعي تركيباً. إنها ليست خطوة ضرورية في التاريخ ليتقدم نحو حالة مثالية. وينطبق هذا على الفن كذلك.
النقطة التالية والأكثر إثارة للدهشة هي أن مصطلح “الفن” لم تعد له دلالات ثابتة بعد الآن. ما يرسم المصطلح نسبي تاريخيا، أو بالأحرى لأن الفن نفسه فقد تاريخه. يشرح آرثر دانتو في مقالته “عمل الفن والمستقبل التاريخي”، ما يعنيه بهذا قائلاً “إن ما يمكن اعتباره فنًا في وقت محدد لم يعد فنًا في وقت آخر. إن كل عمل فني له جوهره، وتأتي قيمته، في المقام الأول في سياق ‘السرد’ الذي ينتمي إليه فقط”. ومع ذلك، كانت هذه الأعمال الفنية المدهشة التي قدمها آرثر دانتو والتي لها تريخها ولكن يمكنها تركه خلفها وتدخل في تاريخ جديد وتبدأ سيرة جديدة.
وهذا يعني أيضًا أن التاريخ فقد احترامه، ولم تعد تعتبر الأصالة التاريخية ضرورية، فقد لعبت محاكاة مسرح شكسبير في المسرح العالمي وأداء موسيقى باخ دورا في القضاء على ما كان يعتبر المعنى الحقيقي تاريخياً لهذه الأعمال الفنية، ولكن باعتبارها، طبقاً لرؤية مابعد الحداثة، طريقة واحدة من بين طرق الأعمال الفنية العديدة في الماضي. على الرغم من أن هذه الأعمال الفنية تنتمي إلى سياق تاريخي محدد، إلاّ أنها تحصل على فرصة لدور أو سيرة جديدة. لقد أصبح التاريخ الماضي ملعبًا ومحجرًا لفن اليوم.
أتابع هنا مرة أخرى تشخيص آرثر دانتو في كتابه “ما وراء صندوق بريلو” حيث يقول، سيكون هناك في فترة بعد نهاية الفن تأتي بعدها ما يسميه بــ”التعددية العميقة”. ولكن ماذا يعني دانتو بمصطلح التعددية العميقة؟ إنه بالتأكيد يدرك أن الفن قد أظهر دائمًا مجموعة من الأنواع والأنماط والعهود. ومع ذلك، في فترة من التاريخ، نظمت هذه التعددية بطريقة عمودية في الغالب. نمط واحد يتبع الآخر. للتأكد من أن الأنواع المختلفة كانت معاصرة لبعضها البعض. لذلك لا يمكننا أن ننكر أنه كان هناك أيضًا نوع من التعددية الأفقية. ومع ذلك فإن مؤرخي الفنون المرئية والأدب والموسيقى يشعرون بالدهشة لرؤية إلى أيّ مدى تشترك هذه الأنواع في كل عصر. يتحدثون على سبيل المثال عن الرسم الباروكي، والهندسة المعمارية الباروكية، والأدب الباروكي، والموسيقى الباروكية. وبالتالي فإن هذه التعددية ليست تعددية عميقة بالمعنى الذي يقول به آرثر دانتو. فالتعددية العميقة تعني أن النهضة والباروك والفن الرومانسي متزامنة الوجود، أي توجد في الوقت نفسه. لا توجد طريقة لتنظيمها وفق ترتيب زمني للتقدم، وليس لأيّ منها الأسبقية على الأخرى، ولكل منهما الحق نفسه في الوجود مثل الآخر.
ترتبط هذه الخاصية ارتباطًا وثيقًا بما قلته حول التعددية. لأن “التعددية” تعني تعددية أنماط الاكتفاء الذاتي. يعرّف مصطلح “النمط” أو يعني أنه مجموعة من القواعد واللوائح التي يتفق عليها مجموعة من الفنانين بشكل عام. كما رأينا من قبل، في مرحلة تاريخ الفن، كان كل عضو في عالم الفن يتصور هذه القواعد واللوائح على أنها إما رجعية وقديمة أو ثورية وتقدمية. يفترض هذا الانقسام وجود تصور مشترك للهدف الشامل للتقدم التاريخي. ما إن يُلغى هذا التصور حتى يختفي الفرق بين الرجعي والتقدمي أيضاً. لذلك، بعد نهاية الفن (بالمعنى الذي تحدثنا عنه أعلاه)، لم تعد الاختلافات بين الأنماط هي الموضوع المناسب للتقييم المشترك. على العكس من ذلك، سوف يتجاهل أولئك الذين ينخرطون في نمط واحد كل أولئك الآخرين. علاوة على ذلك، لن يتمكن أحد من تقدير القيمة الفنية للعروض والإنجازات الفنية في إطارها إلا أولئك الذين يقدرون الأسلوب ويتابعون تحولاته. وسيكونون هم الأعضاء الوحيدون في عالم الفن الذين يستطيعون فهم فن هذا الأسلوب، والوحيدون الذين سوف يسعدون به. سيتم إبداع الفن لهذه المجموعات المحدودة من “الخبراء” وليس للإنسانية ككل. وهذا يعني أن عالم الفن نفسه سينقسم إلى العديد من عوالم الفن، كما توجد أنماط عديدة منه.
يمكن أن تساعد المقارنة مع عالم الرياضة والألعاب مرة أخرى في فهم هذا التغيير الجذري في عالم الفن. نرى اليوم مجموعة من الألعاب الرياضية المختلفة. لكل منها مشجعوه ومؤيدوه، الذين يعرفون عادة القواعد والأبطال وتاريخ رياضتهم المفضلة، لكنهم يعرفون القليل عن الرياضات الأخرى أو يتجاهلونها تمامًا. ونتيجة لذلك، يسعد المشجعون فقط في ممارسة رياضتهم المفضلة ومشاهدتها أما الآخرون إذا ما تابعوا فستكون مملة إلى حد ما بالنسبة إليهم . ويحصل الشيء نفسه في عالم الفن. ويصبح الفن أكثر فأكثر مصدر اهتمام للداخلين فيه ويستبعد الباقي. بمعنى آخر، كلما تحرر الفن أكثر كلما أصبح مفهوما لفئة قليلة.