الاستشراق الجديد.. جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟

كشف الغزو الأميركي للعراق عام 2001م عن الدور البارز الذي لعبه الاستشراق الجديد في تشكيل مخيلة الغرب نحو المنطقة العربية، فعبر عدد من مراكز الأبحاث وأقسام الجامعات ووسائل الإعلام صدَّق العالم أن العراق مقبل على إبادة البشرية. يومها وقف وزير الخارجية الأميركي كولن باول يستعرض أمام مجلس الأمن علبة صفيح قديمة بوصفها دليلًا على مدى تطور البرنامج النووي العراقي، مطالبًا بتشكيل تحالف دولي لانتزاع قوى الشر من مكمنها. هكذا صنعت أفكار برنارد لويس وصمويل هنتنغتون وجيوش من صحفيين وباحثين عاملين في مضمار ما يعرف بالاستشراق الجديد رأيًا عامًّا بارَكَ احتلال العراق، فضلًا عن إلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات على رؤوس أطفاله وشيوخه.

سهَّلت القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال الحديثة للمستشرقين الجدد عملهم في إنتاج مزيد من التصورات الخاطئة عن الإسلام ومنطقة العالم العربي، بدءًا من أن انعدام الديمقراطية في الشرق هو الذي أدى إلى خروج الإسلاميين من بلدانهم لتهديد المجتمعات الغربية، مرورًا بأن الحل يكمن في إحلال الديمقراطية الأميركية ووصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم؛ كي لا تتكرر مأساة تفجير بُرجَيِ التجارة العالمي من جديد.. هذه الأفكار روَّجت لإعادة تقسيم المنطقة العربية على أسس طائفية وعرقية، وعجَّلت بخلق جماعات تؤكد وجهة نظر الغرب في الإسلام.

لكن السؤال: ما ملامح الاستشراق الجديد؟ ما الذي يختلف به عن الاستشراق الذي فنده المفكِّر الراحل إدوارد سعيد؟ ما غايات هذا الاستشراق وأهدافه التي أطلتْ برأسها مع احتلال العراق في مطلع الألفية الثالثة؟ أسئلة تطرحها «الفيصل» على عدد من الباحثين والكتاب.

يقول الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه «ما بعد الاستشراق»: إن غزو العراق كشف عن الدور المتنامي لمراكز البحوث والجامعات ووسائل الإعلام الغربية والأميركية في صياغة وعي الجمهور العام وآرائه ومواقفه، كما كشف عن الدور المذهل الذي لعبه الاستشراق الجديد في تكريس صورة نمطية لا سابق لها، وهي جميعها، كما يذكر الربيعي، عناصر أساسية ساهمت في شيطنة مجتمعات بأكملها، من بينها العراق الذي كان قبل غزوه طوال سنوات الحصار الجائر موضوعًا أثيرًا لدى جيل جديد من المستشرقين. ويرى الربيعي أن على العرب الذين أصبحوا موضوعًا دراسيًّا للاستشراق الجديد أن يقدموا تعريفًا دقيقًا لذلك الكم الهائل من الكتب والمقالات والدراسات التي اهتمت بالعالم العربي السياسي والثقافي، ورؤية طبيعة صلتها بما أنتجه الاستشراق القديم الكلاسيكي من مواد شبيهة مماثلة.


محمد عمري: لماذا يكرهوننا؟


لا أعتقد أن الاستشراق الجديد موحّد أو أنه استطاع إنتاج معرفة جديدة حول المنطقة بعد 2011م. وإذا أخذنا الاستشراق الجديد بمعنى الخبرة الأكاديمية في خدمة القرار السياسي الغربي، فأغلب المجهود اتجه نحو كيفية المحافظة على المصالح في منطقة متقلبة. كما تواصل التركيز على ما يسمى بالحرب على الإرهاب ومحاولة إيجاد مواقع للتأثير في واقع متقلب، كسوريا مثلًا. وتدعمت فكرة البحث في سؤال: «لماذا يكرهوننا؟»، وبخاصة في الولايات المتحدة، بالإجابة عنها بعودة الشعبوية وتقديم المصلحة القومية أولًا، كما ظهر في الخطاب الذي أوصل دونالد ترمب للرئاسة. وإلى حد مهم دعم مصير الثورات العربية فكرة الاستثناء العربي وعدم قدرة المنطقة على استيعاب الديمقراطية لدى من كان يحملها قبل 2011م. ولذلك تواصلت الدعوات إلى الحلول الأمنية والتدخل العسكري ومساندة «الحكام الأقوياء» بدلًا من تدعيم الديمقراطية والمراهنة على القوى المعارضة. أما في الغرب فلعل صعود اليمين المتطرف والخطاب المعادي للهجرة، وبخاصة في البلدان الإسلامية، دليل على قوة الفكر الاستشراقي الجديد وفعله في صنع الرأي العام والقرار.

أكاديمي تونسي أستاذ الأدب المقارن بجامعة أكسفورد.


عبد الله الوهيبي: من الاستشراق إلى التسطيح


«الاستشراق الجديد» -وهو مصطلح لا يخلو من غموض؛ لقلة تداوله ولضبابية حدوده- تحوَّل تدريجيًّا لحالة سيولةٍ وتذرٍّ وتفتُّتٍ. ففي الحقبة الاستشراقية التي امتدت قرابة القرنين حتى أواخر القرن المنصرم كان الإنتاج المعرفي الغربي تجاه المشرق يتمحور في الإنتاج في اللغويات والرحلات، ثم تطور لدراسات أنثروبولوجية وسسيولوجية واقتصاد سياسي وغيرها من المنهجيات، وكان ذلك في العموم يصدر عن الأكاديميات الغربية بالدرجة الأولى، ومن المراكز العلمية والبحثية السياسية والمستقلة في مرحلة تالية، ثم مع الانتشار الهائل لشبكات الاتصال الحديثة ابتداء من ذيوع القنوات، ثم الإنترنت، ثم الشبكات الاجتماعية، تحولت المعرفة الاستشراقية لأنواع جديدة تسطيحية وكليشيهات ساذجة يصرح بها «خبير» في الجماعات الإسلامية أو «معلّق» يعمل في مركز راند أو ما شابه، كما صار من السهل مشاركة العربي والمسلم في إنتاج هذه المعرفة، لظروف كثرة الباحثين من أصول عربية في الغرب عمومًا، ولظروف تزايد الهجرة و… إلخ. فالتحول الأحدث في المعرفة المنتجة عن الشرق العربي هي هذه السمة التسطيحية والتفتيتية، فلم تعد الأبحاث الجادة أو الأطروحات العميقة هي المؤثرة أو لها الأولوية في تكوين الصور والمواقف العمومية عن حوادث المشرق وتداعيات الأحداث في المنطقة العربية، بل الخبير/ المعلق/ الصحفي الذي يقدم معرفة للاستهلاك العاجل.

باحث سعودي أصدر كتاب


«حول الاستشراق الجديد – مقدمات أولية»

عمار علي حسن: الاستغراب في مواجهة الاستشراق


الاستشراق هو المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، ووصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه، وهو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه… وهو إنشاء استطاعتْ به الحضارة الغربية أن تتدبر الشرق – بل حتى تنتجه، سياسيًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا وعقائديًّا وعلميًّا وتخيليًّا، حتى أصبح صعبًا على أي إنسان أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلًا متعلقًا به، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل، ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة، يكون فيها الشرق موضعًا للنقاش.

أما «الاستغراب» فهو دعوة حالمة متفائلة لدراسة الغرب، وتفكيك ثقافته وتوجهاته، وفهمها وهضمها، لامتلاك آليات فاعلة للتعامل معها. لكن هذه الدعوة لم تنتج تيارًا عريضًا متدفقًا مثل الذي أنتجه الاستشراق، وهي ليست سوى جهود فردية متناثرة، تضرب يمينًا ويسارًا، بلا هدف محدد، ولا خطة ناظمة. لكنها في كل الأحوال لا تقوم على تشويه الغرب، اللهم إلا في بعض كتابات أتباع التيار الإسلامي، مثل ما كتبه سيد قطب ومحمد قطب، بل تنطوي في أغلبها على الإعجاب به، ومحاولة تمثله، والاقتداء بما أنجزه في المعارف التطبيقية والإنسانية والفنون، وفي العمران البشري، لا سيما في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويحتاج حوار الحضارات إلى تصحيح الصور النمطية المغلوطة، وإلا ظل مجرد ترف نخبوي، ورتوش مزيفة، وخطابات علاقات عامة، تظهر وقت الأزمات، وتُستَخدم مطية لأحوال السياسة وتقلباتها.

باحث مصري في علم الاجتماع السياسي.

عبدالكريم المقداد: في مقعد الجواسيس

لا أرى في الاستشراق الجديد إلا نسخة أحط وأبشع من الاستشراق القديم، الذي كرّس للشرق صورة نمطية لا تعكس سوى الجهل والهمجية وعبادة الشهوات. لطالما نظر إلينا المستشرقون بنظرة المتعالي، ووضعونا في خانة الأدنى. ولست أجافي الحقيقة إذ أقول: إن أغلبهم لم يبرح موقع الجاسوس في رصده للشرق، وتركيزه على مسارب الضعف التي تمكن الغرب من التسلل منها للاستحواذ على مواردنا وإرادتنا وقرارنا بصور خادعة زخرفها بمنمنمات فنية تحرف النظر عن خبث تلك الصور. لم تفلح كل المحاولات العربية والإسلامية من خلال التواصل والتعايش مع الغرب بعد ذلك في تغيير تلك الصورة، التي التصقت في وعي ولا وعي الغرب، وصارت مُسَلَّمة لا تُدحَض. كان الغرب يوارب ويلفّ ويدور لعدم الجهر علنًا بمفاهيمه عن الشرق، لكن ما أن تلقى صدمة الملك فيصل بن عبدالعزيز في وقفه تصدير النفط له في عام ١٩٧٣م حتى جهر بما كان يداري، فاكتظ إعلامه بصور وأوصاف للمسلمين والعرب أهون عناوينها الهمجية والتوحش والبداوة والجِمال والرّقّ! حاول المستشرقون بعد ذلك تغليف هذه النظرة بغِلالة جديدة، فكان الاستشراق الجديد، وظهر صموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس وأضرابهما.

تمت «مكيجة» الوسيلة فقط، أما الهدف فلم يتغير: الاستحواذ على الشرق وثرواته وعدم تمكينه من أمره وقراراته، وإغراق مواطنيه في دوامة الركض خلف رغيف الخبز، والحرص على جعل الحرية والعدالة والكرامة مجرد كماليات لا يستطيع اقترافها حتى في الأحلام.  تماهى المستشرقون مع القادة فخلقوا (القاعدة)، وابتكروا بعدها فزاعة الإرهاب، ثم شرعوا بشيطنة الإسلام، وراحوا يؤدلجون المسلمين بتقسيمهم إلى معتدلين ومتطرفين، وبدأ اللعب على أوتار المذهبية والإثنية، وسهلوا لإيران أن تلعب دورًا رئيسًا في المسرحية، فغرق شرقنا العتيد بالدماء. فهل نرجو من هذا الغرب الذي بنى أيديولوجياته على أفكار المستشرقين الجدد الأخطبوطية أن يسمح بنجاح الربيع العربي، فنملك أمرنا وموقفنا ونصبح أحرارًا؟ التجارب ماثلة أمامنا، وما زالت تتفاعل في مصر والعراق وتونس واليمن وسوريا وليبيا، وما زال نهر الدم يتدفق بغزارة منذ سنوات، أما الغرب، الذي يثور إذا ما عثر كلب في أحد أزقته، فيواصل الاستمتاعَ بمشاهدة مسلسل الإبادة في الشرق.

ناقد وباحث سوري.

فخري‭ ‬صالح‭: ‬استشراق‭ ‬ذو‭ ‬أغراض‭ ‬وغايات‭ ‬أيديولوجية‭ ‬فاقعة


إذا نظرنا إلى ما قدمه الاستشراق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، في دراسة تاريخ الشرق ولغاته وتراثه، فسنجد أن من الصعب تجاوز هذا الميراث الهائل من المعرفة الاستشراقية حول العالمين العربي والإسلامي. وبغض النظر عن نقد الاستشراق الذي مارسه مفكرون مثل أنور عبدالملك، وإدوارد سعيد، وطلال أسد، وضياء الدين ساردار وآخرين غيرهم، فإن الاستشراق الكلاسيكي قام بدور عظيم في دراسة الشعوب الشرقية وميراثها. أما ما سميته في كتابي الأخير «الاستشراق الجديد»، أو بالأحرى «الاستشراق الراهن»، ممثلًا في كتب برنارد لويس الدعويَّة الأخيرة، وتنظيرات صمويل هنتنغتون، وسياحة الكاتب الترينيدادي الأصل، والبريطاني الجنسية والثقافة: في. إس. نايبول في العالم الإسلامي، فهو يتسم بالسطحية، وتغلب عليه الصور النمطية، والتحليلات المستمدة من مصادر ثانوية.

إنه «استشراق» ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة ومفضوحة. فإذا كان الاستشراق الكلاسيكي واقعًا في شرك العلاقة المعقدة بين المعرفة والخطاب والسلطة فإنه سعى، في أعمال المستشرقين الكبار مثل المجري إغناتس غولدتسيهر أو الألماني كارل بروكلمان، إلى دراسة الميراث الإسلامي العظيم، وقراءة هذا الميراث في تاريخيته. أما النسل الجديد من المستشرقين الجدد لوزارة الخارجية الأميركية، وللسي آي إيه، ومراكز صنع القرار في أميركا والغرب، فوجدوا لتوفير معرفة نظرية يمكن من خلالها اتخاذ قرارات التدخل وشن الحروب على مناطق ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. لا شك أن بعض الاستشراق القديم كان في خدمة الإمبراطورية، لكنه لم يكن كذلك في معظمه، أما ما كتبه برنارد لويس وتلامذته، الأقل منه شأنًا ومعرفة دون أي شك، منذ ثمانينيات القرن الماضي، فلا قيمة معرفية له، بل هو دعاية تشبه الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة. إنها مجرد مواد إعلامية دعوية هدفها اصطناع عدو جديد للغرب وأميركا لغايات إستراتيجية، وكذلك هوياتيَّة في مواجهة الآخر: المسلم، الذي يعتقد هؤلاء أنه يهدد هوية الغرب المسيحي –العلماني– الديمقراطي. يمكننا أن نرى الآن هذا الجنون القومي –الهوياتي– المعادي للأجانب (وهم في الأغلب: المسلمون) الذي يجتاح أميركا وأوربا، لنفهم إلى أي حد أساء هؤلاء المستشرقون الجدد إلى أميركا والغرب قبل أن يسيؤوا إلى العرب والمسلمين. إننا مُقبِلون على كارثة بعد أن أصبحت كراهية الإسلام سياسة يعتنقها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب ومساعدوه في البيت الأبيض. ولا شك أن ذلك ينسحب على أوربا التي ستعاني كثيرًا بسبب السياسة الأميركية الجديدة التي تتجه بسرعة صاروخية إلى التقوقع حول هويتها البيضاء البروتستانتية الديانة، الإنجليزية الثقافة، وهو ما نظَّر له صمويل هنتنغتون في آخر كتبه «من نحن؟» (2004م)، وهو الذي نبه من قبلُ إلى خطر المسلمين، ثم أضاف في كتابه الأخير المهاجرين من أميركا اللاتينية الذين رأى أنهم يهددون هوية أميركا في بدايات القرن الحادي والعشرين. هذه الرؤى النظرية، إذا اعتُنِقت، قد تقود إلى حروب أهلية ومواجهات كونية، وربما حروب عالمية. وها نحن نرى دونالد ترمب يوقع مراسيم سياسية بإقامة جدار بين المكسيك والولايات المتحدة، ويمنع دخول المسلمين إلى أميركا؛ لأنهم في نظره إرهابيون. ومع أنني لا أومن أن الأفكار وحدها يمكن أن تقود إلى صناعة السياسات، فثمة عوامل اقتصادية وسياسية وجيو-إستراتيجية وثقافية، فإن أفكار لويس وهنتنغتون والمحافظين الجدد، إضافة إلى صحفيين وكتاب رأي وباحثين في بيوت الخبرة الأميركية، قد صنعت رأيًا عامًّا في الأوساط اليمينية المتطرفة كانت نتيجته انتخاب رئيس أميركي شعبوي، جاهل، معادٍ للثقافة، معادٍ للتجربة الديمقراطية الأميركية، كاره للأجانب، محتقر للنساء، قد يجرُّ العالم إلى كارثة، وربما مواجهة نووية.


تم عمل هذا الموقع بواسطة