لا يمكن أن نحصي المرات التي حضر فيها الليل ضمن الثقافة العالميّة كموضوعة تتم معالجتها في الشعر والأدب والفنون البصرّية والعلوم بأنواعها، هو ذاك الزمن المتكرر يومياً، الذي تتغير فيه معالم المكان وتتبدل طباع الناس، وتنشط خلاله فئة جديدة من الذين يرون في سواده ونجومه ملجأ لهم، هو الفضاء الذي يحدق فيه العالِمُ لاكتشاف الكون، وستار اللص الباحث عن الكنوز، ومساحة تتحرك فيها كائنات مُريبة، هو أيضاً مصدر وحي العاشق الولهان الذي يبحث عن وجه المحبوب في تشكيلات النجوم، وكأن الليل يحرر طاقة سحريّة ويكشف معارف لا تتضح إلا عند غياب الشمس.
يستضيف معهد ثقافات الإسلام في العاصمة الفرنسية باريس معرضاً بعنوان “العين والليل”، فيما يبدو للوهلة الأولى مستوحى من العبارة الشهيرة “يا ليل، يا عين” لكنّ المعرض يقتبس اسمه من عنوان رواية الكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي، التي نشرت عام 1969 ضمن سياق سياسيّ حرج، ويظهر الليل فيها كمحرك جماليّ وأدبي، وهذا ما يتبناه المعرض الذي يستضيف ثمانية عشر فناناً من جنسيات مختلفة، للإضاءة على العلاقة بين الليل وأولئك الذين يحدّقون في ظلامه، علّنا نعرف ما الذي يرونه، أو كيف تتجلى أسراره أمامهم، سواء أكانوا يستخدمون العين المجردة، أو عدسة التيلسكوب، أوالكاميرا، أو عين المخيلة تلك التي لا حدود لها كظلام الليل نفسه.
تغطي الواجهة الخارجيّة للمعهد جدارية تحمل اسم “الأعين الثلاث” أنجزها فنان الغرافيتي التونسي “meen one”، وتمتزج فيها تشكيلات الخط العربي مع التاريخ الإسلامي العلميّ، إذ يظهر الحسن بن الهيثم في ظلام الليل يحدق في السماء عبر مشكاة تحوي كلمة “الحب”، ليقع بصره نهاية على القمر المحاط بتكوين نجميّ تشكّله كلمة “العمل”، لنرى أنفسنا أمام ترجمة بصريّة للعلاقة الشعرية والعلمية مع الليل، ذاك الذي يهدد الحواس ويفعل المخيلة، في ذات الوقت يوظف عبره علماء الفلك أدواتهم لينهلوا منه معارف الكون.
القسم الأول من المعرض بعنوان “الليلة الصافية”، وتتحرك الأعمال ضمنه بين الممارسات اليوميّة وتلك العلميّة، فمفهوم الليلة الصافية يرتبط بالبحث عن هلال رمضان، والممارسة الدينية التي ترى في الدورة الطبيعيّة موعداً لبداية الصيام وإعادة تقسيم الوقت، كذلك نتعرف على دور النجوم وتوزيعها في بناء اللغة العربيّة، إذ اعتمد الفنان تيمو نصيري على حكاية تقول إن الفراهيدي تأمل نجوم السماء ما أوحى له بتنقيط الحروف، ما دفع نصيري لإعادة إنتاج سماء البصرة في ربيع عام 776 هـ، ضمن لوحة يرصد فيها شكل النجوم التي أثرت في الفراهيدي صاحب النقط التي غيرت شكل اللغة العربيّة.
يحوي المعرض أيضاً كائنات الليل والحكايات المقدسة والأسطوريّة المرتبطة بها، إذ نشاهد لوحة لمراد سالم بعنوان “البراق” الذي استوحى فيها من الرسوم الساسانية والفارسية شكل البراق، الكائن الذي حمل النبي محمد إلى السماء ليلاً ثم عاد به إلى سريره بلمح البصر، وخصوصية البراق تكمن في شكله الهجين (رأس امرأة وجسد حصان) واختلاف المذاهب الإسلامية حول حقيقته، خصوصاً أنه ظهر في الليل زمن النوم والأحلام.
نتلمس العلاقة الإشكالية مع السماء في سلسلة صور “اليوم السابق” رونو أوغوست دورمويل، الذي اختار مدناً تعرضت لعنف سياسيّ تاريخي، كبغداد وهيروشيما ولندن، وقام بإعادة رسم النجوم التي كانت في سمائها ليلة القصف، والهدف هو إظهار لا مبالاة السماء/الكون في لحظات العنف، وكأنها تتحرك خارج زمننا السياسي، فهي محكومة بقوة تفوق كل تلك التي ينتجها البشر، الذين لا حول لهم سوى مراقبتها وأحياناً الدعاء لها.
يناقش القسم الثاني من المعرض أثر البشر على السماء ليلاً، والأضواء التي تظهر فيها في المناسبات المختلفة سواء أكانت احتفالات أو قنابل تلتمع في الليل، إذ نشاهد مجموعة من الصور لهيلدا بوغريت التي تظهر فيها مجموعة من الألعاب النارية التي تزين سواد الليل و تغير من شكله، وكأن “إنارة” الليل حلم بشريّ واستعراض للقوة والإنجاز التاريخي القادر على نفي الظلام الحتمي المفروض على البشر، في ذات الوقت، هذا الظلام يعني أيضاً قمعاً وخوفاً مستتراً كما في مجموعة الصور التي أنجزتها في القاهرة المصورة منى صابوني بعنوان “أريد أن أحدثك عن الخوف”، والتي استخدمتها منظمة العفو الدولية لتعكس مدى العنف الذي تتعرض له المرأة في مصر، فالليل يعني الخوف والرعب من خطر مجهول حاضر في كل مكان، يظهر ضمنه جسد المرأة كفريسة محتملة للمتحرشين المتخفّين في الظلام، الذي تظهر ضمنه موضوعات صابوني وحيدة، مترقبة، وخائفة.
يحوي القسم الثالث من المعرض المحاولات البشرية لصناعة الليل أو إيجاده ضمن التكوينات الطبيعية أو الفنيّة، وأبرز هذه المحاولات نراها في صور النيغاتيف التي أنجزها مصطفى أزيرلولا الذي يرى في تقنيات التصوير القديمة حركة بين الليل – النيغاتيف وبين النهار – الصورة، هذا الانتقال الذي تختلف ضمنه التكوينات، يتركنا أمام صورة مزدوجة لكل ما هو حولنا، ضمن أسلوب يشابه أثر الليل على العالم الذي تختلف بسببه الألوان وكيفية إدراكنا للأشكال، وكأن الليل قادر على التغلغل في مخيلتنا ورؤوسنا، الأهم أننا قادرون على إعادة إنتاج أثره، كما في عمل التجهيز الخاص بستفاني سعادة، إذ نرى زهور ياسمين مرمية على الأرض، تختزن عبق الليل المتوسطي، وهي حسب رأي الفنانة نجوم السماء التي سقطت كشهاب أصاب الأرض وترك أثراً على ما حوله.
يحوي الليل وأسراره حكايات شهرزاد، تلك التي نقرأ عنها في المعرض، وكيف استفادت من زمن “الراحة” كي تنجو هي ونساء المملكة عبر السرد الذي ينتهي مع طلوع الفجر، ما يتيح لنا النظر إلى المعرض من هذه الزاوية، وكأنه مساحة للمخيلة والذاكرة، فكل فنان يستدعي ما لديه من صور وتجارب حرّكها الليل ومكوناته ثم يعرضها أمامنا كعلامات على أثر الظلام السحريّ، كالمنحوتات التي أنجزها أرمن آغوب بعنوان “ثلاثية صوفيّة”، والتي تتألف من تكوينات سوداء قابلة للدوران تتطابق مع رداء الدرويش الذي يرتفع وتختلف أمواجه كلما أمعن مرتديه بالدوران، كالليل، كلما اشتد خلق أمواجا من السواد تتوزع ضمنها النجوم، ما يخلق ألواناً تثير المخيلة، وتخاطب أعين المراقب الذي كلما أطال النظر اختلفت الأشكال والتكوينات.