فنانة الجسد والاستفزاز

تُعتبر الفنانة الصربية المعاصرة مارينا أبراموفيتش (1946) من رواد فن البرفورمانس (الأداء الفني)، المنتمي إلى براديغم الفن المعاصر، إذ اشتهرت بعروضها الاستفزازية والمثيرة للجدل، رفقة شريكها الألماني الفنان يولاي؛ حيث قاما بدراسة -في تجارب عديدة- العلاقة بين جسدين وفكرين في دينامية سيكولوجية للجسد. لهذا فأعمالها إلى جانب كونها أعمالا أدائية فهي تنتمي إلى خانة “فن الجسدي” الذي تعتبر أبراموفيتش رائدة من رواده، والذي هو مجموعة من الممارسات والأدوات التي تضع لغة الجسد في قلب عمل فني. وفي بعض الحالات، يجعل الفنان جسده عملاً فنياً بحد ذاته، والحالة هنا أعمال الفنانة أبراموفيتش الجريئة والتي اشتغلت على جسدها ضمن سياقات إبداعية معتمدة على تنصيبات فنية أو الأداء الحي أو المسجل (فن الفيديو)، وغيرها من التوجهات الفنية التي تغذي الممارسة الفنية المعاصرة التي انطلقت منذ منتصف القرن الماضي.

تعد تجربة مارينا أبراموفيتش جزءًا هاما من الحركة الفنية للفن الجسدي، إذ لم تتهاون عن عرض جسدها في أوقات مختلفة طيلة مسارها الفني، للخطر. وقد كادت تفقد حياتها أثناء تنفيذ أحد أداءاتها الفنية، حيث وُجد في حالة احتضار بسبب الاختناق تحت ستار من النيران. ومع ذلك، فإن الهدف من كل أداءاتها ليس الإثارة، بل إن أعمالها هي سلسلة من التماهي مع التجارب التي تقوم بها، في عملية تسعى من خلالها إلى إعادة تعريف الحدود، أي السيطرة على الجسد، والعلاقة بين الفن والمؤدي، في تركيب فني يحاول معالجة الرموز التي تحكم المجتمع. وبالتالي، يمكننا القول إن مشروعها الفني له هدف طموح وعميق وهو جعل الناس أكثر حرية. لهذا نستعرض في نصنا، أهم أداءين قامت بهما هذه الفنانة التي لا تتوقف على استفزاز الجسد والمجتمع..

نخبة المجتمع والفتك بالجسد

لم تتوقف أبدا إلى يومنا هذا الفنانة الصربية المعاصرة، مارينا أبراموفيتش، على القيام بأعمال/أحداث فنية قائمة على “عنصر” المخاطرة القصوى، إذ تضع جسدها بالخصوص إزاء مغامرات جسدية لمعالجة قضايا اجتماعية ونفسانية وهوياتية وسياسية وجنسانية… جاعلةً المتلقي جزءا فعالا في عملية خلق الحدث الفني، بل فاعلا أساسيا في أهم مغامرة كادت تؤدي بها إلى الوفاة في حالات معينة، من بين كل البرفورمانسات التي قامت بها. حيث قامت سنة 1974، ببرفورمانس جد خطير، اختارت له “إيقاع”  عنوانا بارزا، في مغامرة مثيرة جاعلة جسدها “غرضا حرا” لكل ما يرغب المتلقون القيام به، لمدة ستة ساعات متواصلة، حيث ظلت الفنانة واقفة دون حراك. واضعة ورقة توضيحية كتبت فيها:

“على الطاولة يوجد 72 غرضا، يمكنكم بها أن تقوموا بما تريدونه فيَّ.

برفورمانس.

أنا غرض.

أتحمل كل المسؤولية لما سيقع في هذا الحيز الزمني.

المدة الزمنية: 6 ساعات/20:20″.

ما قبل العاصفة


مغامرات جسدية لمعالجة قضايا اجتماعية ونفسانية وهوياتية وسياسية وجنسانية
أداء فني جريء


انقسمت الأغراض إلى فئتين. إحداها تتكون من “أغراض ممتعة”، والأخرى “أغراض فتاكة”. الأشياء الترفيهية غير مؤذية تمامًا، فهناك ريش وزهور وعنب وعطور ونبيذ وخبز… ومن بين الأشياء المدمرة توجد سكين ومقص وشريط حديدي وشفرات حلاقة ومسدس مع خرطوشة…

في ظل الساعة الأولى لم يجرأ أحد من الحضور أن يقترب إلى “الغرض/الفنانة”، سوى الصحافيين الذين بدؤوا بالتقاط الصور، ومن ثم سيتجرأ أحد على معانقة وتقبيل العارضة/الغرض، التي لم تتفاعل بأيّ إشارة رفض، ما سيحمّس الآخرين على الاقتراب وحمل الأغراض والتعامل بها بحرية على جسد الفنانة المعروض. إذ سيقدم لها أحد وردة لتحملها.

إنها فقط لحظة عاطفية هادئة قبل العاصفة.

سيستمر الهدوء واللعب بالأغراض الممتعة وجسد الفنانة بلطف، إلى حدود الساعة الثالثة، حيث سيتجرأ بعض المتلقين على حمل جزء من الأغراض التدميرية… فكان الحدث الانقلابي.

بداية العاصفة

فجأة أخذ أحدهم السكين وجرحها في فخذها، جرحا غير غائر. وهنا العاصفة أعلنت عن قوتها: مُزقت ملابسها بشفرات حلاقة وجرحها رجل عند رقبتها قبل أن يشرب بعضا من دمها. أما أحدهم فحاول الاعتداء عليه جنسيا. لكن التعذيب لم ينته بعد عند هذا الحد، بل سيزداد حدة.

تتذكر مارينا أبراموفيتش آخر ساعتين فتقول “شعرت بالاغتصاب، مزقوا ملابسي، وألقوا أشواكاً وردية اللون في بطني، وضربوا مسدساً على رأسي”.

سيصل البرفورمانس إلى ذروته القصوى، حينما سيصوّب أحدهم المسدس المحشوّ صوب رأس الفنانة التي ظلت صامدة كغرض ميت. حينما سيتم إيقاف الأداء، الذي أثبت ما أرادت أبراموفيتش إثباته.

يكشف لنا هذا العمل الأدائي المستفز عن أفظع ما يتعلق بالأشخاص مهما كان وضعهم الاعتباري والمادي والثقافي، إذا أخذنا في الاعتبار أن المتلقين في هذه الحالة أناس من “النخبة”. ويوضح البرفورمانس مدى السرعة التي يمكن أن يقررها الشخص الذي يؤذيك عندما يُسمح له بذلك، مما يدل على مدى سهولة تجريد شخص من إنسانيته، بل إن الإنسان “شر تكبته الحضارة إلى حين”. في هذه الحالة الفنانة غرض/شخص لا يدافع عن نفسه، مما يدل على أن غالبية الناس “الطبيعيين” يمكن أن يصبحوا عنيفين جدًا في الأماكن العامة إذا أتيحت لهم الفرصة. وهذا ما عبّرت عنه الفنانة وأوصلته بأدائها الفني هذا.

الجسد وسلاح الثقة


مغامرات جسدية لمعالجة قضايا اجتماعية ونفسانية وهوياتية وسياسية وجنسانية
مغامرات جسدية لمعالجة قضايا اجتماعية ونفسانية وهوياتية وسياسية وجنسانية


وفي أحد أشهر أداءهما الفني “بقية الطاقة”، تمت تأديته في أمستردام عام 1980، نبَّلا قوس نبال بسهم أمسكه يولاي، بينما تمسك أبراموفيتش القوس، في وضع مثير ومخيف، حيث يتوجه السهم مباشر إلى قلب الفنانة، التي تمدّ القوس بكل قوة جسدها لمدة تجاوزت أربع دقائق. وقد ثبّت الفنانان ميكروفونات قرب قلبيهما، لرصد دقات القلبين اللذين بدأ يرتفع ويرتفع معدل سرعة نبضاتهما مع مرور الدقائق.

يضعنا هذا الأداء الفني الجريء إزاء ضرورة إعادة النظر في مفهوم الثقة الذي يربط الأفراد فيما بينهم، هذا المفهوم الذي على أساسه بنيت المجتمعات وقامت الدول، ومدت جسور التجارة وتقوّت العلاقات الاجتماعية والأسرية والصداقة… فإلى أيّ حدّ يمكن أن يثق الواحد منا في الآخر؟ وإلى أيّ حد يمكن أن نأمن حياتنا ونحن نضعها في يد الآخر؟ أوليست الثقة سلاحا قاتلا؟ أليست الثقة كقوس النبال، سلاح واحد في يد طرفين، إلا أنه في جهة واحدة قاتلة؟ ولكن ألسنا دائما في حاجة لقوة الآخر الذي نحن مجبرون أن نضع كامل الثقة فيه؟

هذا ويعدّ هذا البرفورمانس من أقل البرفورمانسات التي أدتها الفنانة الصربية مدة زمنية، إذ استمر لأربعة دقائق و12 ثانية فقط. واضعاً المتلقي إزاء ارتباك كبير واندهاش يجعله مجبرا على إعادة التفكير في مفهوم العلاقة القائمة على الثقة بين البشر على مر التاريخ. هذه العلاقة التي جعلت الحضارات البشرية تقوم على أقدامها، وتدفع بعجلة التطور والتقدم إلى الأمام.

لم تصب أبراموفيتش بأيّ أذى يذكر، ولم تفقد ثقتها في شريكها رغم خوفها الذي رصدته الميكروفونات من خلال قياس تسارع دقات قلبيهما، ولم يخن يولاي تلك الثقة. وإن يظل السؤال، الذي لم يجب عنه يولاي، قائما: ألم يفكر هذا الفنان، ولو لثانية، في إطلاق السهم؟ وماذا لو انفلت السهم بلا نية مسبقة، هل كنا سنفكر في “انهيار حبل الثقة”؟

يكشف لنا هذا الأداء الفني عن تلك الطريقة التي يتم بها الكشف عن الطاقة المخبأة في ثبات جسديهما (اللذان يدخلان في علاقة ثقة). ويكشف عن “استقلالهما المتداخل” القائم في علاقة جماعية لا يمكن أن يغيب فيها أحد عن الآخر.

كل هذا الاشتغال وغيره، جعل من هذه الفنانة الرائدة في مجالها، فنانة جريئة حاملة معها أينما ارتحلت جسدا تحوّل إلى منصة لمعالجة كل آفات المجتمع وتحكّمه في حرية الفرد وإرادته. إذ خلال ما يقرب من خمسين عامًا من العمل اللامنقطع، لم تتوقف الفنانة مارينا أبراموفيتش عن استخدام جسدها كوسيلة لتجربة فنها. في عام 1972 بالفعل، بدأت الفنانة الشابة حياتها المهنية كمدربة للفن المعاصر من خلال تقديم جسدها للجمهور، واستمرت في عرضه وجعله وسيلة تفاعل مع المتلقي الذي يعد جزءًا هاما في عدة منجزاتها الجسدية.

تم عمل هذا الموقع بواسطة