"حبيبتي القصبة" هو عنوان العرض الفني الجديد الذي يقدمه الملهى الليلي "لو كباريه سوفاج" بباريس (الكباريه الفوضوي). هذا العرض يمزج بين موسيقى "الشعبي" الجزائرية والمسرح، وهدفه إبراز الثراء الفني والتاريخي للقصبة من جهة وتوعية الأجيال الجديدة بضرورة الحفاظ عليها من جهة أخرى. فكرة العرض كانت للمغني الجزائري الراحل رشيد طه، وتولى صاحب قاعة "كباريه سوفاج" مزيان أزاييش تحقيقها على خشبة المسرح.
رحلة جديدة ونادرة عبر الموسيقى والمسرح في أعماق هذه المدينة القديمة وأزقتها المتعرجة يقترحها الملهي الليلي "كباريه سوفاج" بباريس عبر عرض عنوانه "حبيبتي القصبة" بدءا من 26 فبراير/شباط وحتى 7 مارس/آذار الحالي.
الهدف من العرض حسب مزيان أزاييش، صاحب الملهى، هو "رد الجميل للمغني الراحل رشيد طه (1968-2018) الذي كان أول من اقترح تنظيم مثل هذه الفعالية لإحياء تراث القصبة وموسيقى الشعبي التي لا يمكن أبدا فصلها عن هذه المدينة القديمة".
وأضاف: "يعتبر رشيد طه من أبرز السفراء الجزائريين الذين وصلت بفضلهم موسيقى الشعبي إلى العالمية عبر أدائه أغنية ’يا رايح‘ للفنان دحمان الحراشي. وكان هدفه من هذا العرض تكريم أبرز فناني موسيقى الشعبي الراحلين والذين عاشوا في القصبة أو غنوا عنها، على غرار الحاج محمد العنقى والشيخ الحسناوي وعمر الزاهي والشيخ غروابي فضلا عن معطوب لوناس".
الحفل بدأ بأغنية بالأمازيغية للمطرب الشيخ الحسناوي "أرواح أرواح " بمعنى "تعال" وهي دعوة لجزائريي المهجر بالذهاب إلى القصبة وزيارة تراثها.
القصبة.. مجاز المتاهة التي يصعب الخروج منها
وفور انتهاء هذه الأغنية الحزينة التي تروي في الحقيقة قصة امرأة تطالب زوجها بالعودة من المهجر، دخل الراوي "بوعلام" (يتقمص الشخصية الممثل عثمان بن داود) إلى القاعة مرتديا ملابس بسيطة وقديمة فيما بدأ يروي قصة حياته التي دارت جميع مفاصلها في حي القصبة.
ولد بوعلام في حي القصبة وكبر وترعرع فيها وتزوج من شابة ولدت هي الأخرى في هذا الحي العريق الذي صنفته اليونسكو عام 1992 ضمن قائمة التراث العالمي.
بوعلام بدأ يضحك ويلتوي كأنه يرقص. ثم قام فجأة بطرح سؤال على المتفرجين الذين حضروا الحفل بقوة قائلا لهم: هل تعرفون عدد الأبواب التي تملكها القصبة؟ السكوت كان سيد الموقف داخل قاعة "كباريه سوفاج". لكنه أجاب بسرعة "خمسة أبواب... وهي باب الواد وباب الجديد وباب البحر وباب دزيرة (الجزيرة) وأخيرا باب عزون"، محذرا أن "القصبة عبارة عن متاهة، فعلى الزائر أن يعرف المخارج الخمسة لكي يسلكها".
وبعد أن حل لغز الأبواب، شرع بوعلام يصف هذه المدينة القديمة برومانسية وبكلمات جذابة متحدثا عن قصورها ومبانيها التي يعود تاريخ بعضها إلى زمن العثمانيين وحتى ما قبل، وعن الساحات التي يجتمع فيها كبار السن، لا سيما في ليالي الصيف الحار قرب نافورات تتدفق منها مياه باردة وعن أسطحها العالية التي تعانق سماء الجزائر الزرقاء وسهرات موسيقى "الشعبي" التي لا تنتهي سوى مع طلوع الشمس.
وينتاب الحزن بوعلام في شعور بالحنين يلازم المكان فيتساءل "آه يا قصبة آه. أين هم الآن سكانك الأصليون؟ لماذا غادروك وتركوك وحيدة تتشاجرين مع الزمن الذي أخذ منك جمال منظرك وشوارعك التي كانت مزينة بالورود وتبعث رائحة الياسمين والبنفسج؟".
ولخصت الفرقة الموسيقية بقيادة عبد النور محمد الملقب بـ"موح الصغير" هذه الإيحاءات في أغنية شعبية معبرة عنوانها "آه يا زمان آه. لماذا توعد الناس ولا توفي بوعودك". وهي أغنية تشرح كيف كانت القصبة والأحياء الشعبية عموما في السابق، نابضة بالحياة، وما صارت عليه الأوضاع اليوم من إهمال وهجر.
وقال بوعلام بهذا الشأن: "طبعا القصبة اليوم لم تعد ما كانت عليه القصبة في الماضي. هناك أشياء كثيرة تغيرت وتحولت، لكن في عرضنا نروي الذكريات ونستحضر الأزمنة والأحداث التي مرت بها المدينة القديمة"، مضيفا "أن القصبة وبما أنها لعبت دورا هاما خلال الثورة الجزائرية وكانت مسرحا كبيرا لمعركة الجزائر الشهيرة، أصبحت اليوم تغذي روح الحراك الجزائري وتلهم الشباب الذين يشاركون كل يوم جمعة في مظاهرات حاشدة بالجزائر العاصمة".
وبخصوص موسيقي "الشعبي"، أضاف بطل العرض "لا يمكن الفصل بين هذه الموسيقى والقصبة لأن القصبة تمثل الشعبي والشعبي هو القصبة"، منوها بأن "من بين أهداف هذا العرض، توعية الأجيال القادمة والشبان عن أهمية ودلالة هذا المكان وضرورة الحفاظ عليه لكي لا يندثر". ولم ينسَ بوعلام ذكر قصص الغرام التي كانت تدور في الخفاء وعبر نوافذ المنازل المقفلة بين شبان وشابات هذا الحي العريق. وروى حكايته، من وحي الخيال، مع شابة اسمها فاطمة تقطن هي الأخرى في القصبة.
"القصبة غنية بالحكايات والأغاني"
على الرغم من أن والدها رفض أن تتزوج من فنان لا مستقبل له ولا مال، مثل بوعلام، كانت فاطمة تتحدى المخاطر وتصعد إلى السطح لتلتقي بحبيبها وتتبادل معه في الخفاء بعض الهمسات.
هذه اللقاءات جعلت بوعلام يتعلق بهذه الشابة التي يشبهها بـ"القمر". فذهب ليخطبها، برفقة عائلته، بالرغم من خوفه من ردة فعل والدها الذي لا يطيق الفنانين والمثقفين.
لكن في نهاية المطاف، قبل والد فاطمة أن تتزوج من بوعلام، الأمر الذي فجر فرحة كبيرة داخل قاعة "كباريه سوفاج". فانطلق عزف الموسيقى من جديد ورقص الحاضرون على إيقاع أغانٍ شعبية خفيفة وتعالت في السماء أصوات الزغاريد في حين ظهر بوعلام ببذلة سوداء جديدة وقميص أبيض وهو يحمل في يده باقة ورد كهدية لفاطمة. وأتحفت الفرقة الموسيقية الحاضرين بأغنية "يارايح" لدحمان الحراشي ليختتم جمهور ملهى "كباريه سوفاج" عرض "حبيبتي القصبة" بالرقص.
و في ما يخص الجانب الموسيقي للعرض، فلقد كان من نصيب "موح الصغير" الذي كشف أنه اختيار أغاني هذا الحفل كان مهمة صعبة نظرا لتعددها وجمالها.
وقال لفرانس24: "حاولت أن أختار الأغاني التي تتناول بشكل مباشر القصبة وتروي قصة هذه المدينة القديمة من جهة وتتناسب مع القصة التي ترويها شخصية بوعلام من جهة أخرى".
وتابع: "القصبة غنية بالحكايات والأغاني. عشت فيها كثيرا وغنيت فيها ليالي عديدة. وكلما أعود في عطلة إلى الجزائر، يتوجب علي أن أزور هذا الحي الشعبي لأنه مصدر إلهام وفخر بالنسبة لي".
وإضافة إلى الموسيقى والقصص، استخدمت أشرطة الفيديو والصور التي بثت بالتزامن مع الرواية والموسيقى فأعادت الحاضرين إلى الماضي حين كانت بنات القصبة يلبسن السراويل القصيرة والرجال البدلات الأنيقة. فهل ولى هذا الزمن نهائيا أم يعيده شباب الحراك؟