افتتُحَ مؤخراً مركز “فلوكارت” لفنون المدينة في باريس ضمن مشروع إعادة إحياء نهر السين، والمثير للاهتمام أن المركز يصفُ نفسه بأنه الفضاء الفنيّ العائم الأول من نوعه في العالم، وذلك لجعل التجربة الفنيّة أكثر حساسية تجاه فضاء العرض، فكما نهر السين مكان مفتوح، المركز العائم يتكون من ثلاث طبقات ذات جدران شفّافة، تختلط فيها الحدود بين “الداخل” بوصفه مساحة فنية وثقافية، و”الخارج” الذي يحوي المدينة وعمارتها ونهر السين دائم الجريان، ما يحرر الأعمال الفنيّة من سطوة جدران المتحف، لتتداخل مع تكوينات المدينة، إلى جانب مرئيّتها للمارة والزوّار على حدّ سواء.
يحتفي مركز فلوكارت في المعرض الأول الذي يقيمه بفنانة الشارع الأميركية كايلي كاري، التي توقع أعمالها بالاسم الوهمي “سوون”، وتحت عنوان “كبسولة الزمن” نشاهد أعمالها التي أنتجتها منذ نهاية تسعينات القرن العشرين حين كانت طالبة حتى عام 2017، كما أنها تعمل حالياً على مشروع خاص بالمركز سيحتل واحدة من صالاته ويدخل ضمن مجموعته الدائمة.
نتعرف ما إن ندخل المساحات الشفافة على أوّل أعمال سوون التي أنجزتها في تسعينات القرن الماضي حين كانت تستخدم “الصمغ” وأنواع اللاصق المختلفة كمواد أوليّة لـ”لوحاتها”، التي تقوم بإلصاقها على جدران شوارع نيويورك، لتبدو أشبه ببوسترات إعلانيّة أو دعائيّة، أما الحكاية وراء هذا الخيار الجماليّ والتقنيّ فترتبط بكايلي نفسها كشابة تريد أن تترك “أثراً”، إذ تقول إنها لم تكن تريد أن تصبح فنانة عادية تُتركُ لوحاتها وأعمالها في المعارض والصالات، بل أرادت لجهدها الفنيّ أن يكون جزءا من العالم وتكوينه الماديّ، وهذا ما نراه في بعض “اللوحات” في المعرض التي تلتقط مشاهد مختلفة من فضاءات نيويورك، سواء تلك الداخليّة كما في محطات القطار ومواقف الانتظار أو تلك الخارجيّة التي تصوّر معالم المدينة وأبنيتها.
تطوّرت لاحقاً علاقة سوون مع مكونات الفضاء العام، إذ أصبحت واعية للتغيرات البيئية ومقدار التلوث الذي تشهده مدينتها، وهذا ما تُرجم في أعمالها التي تستخدم لإنتاجها ورق الصحف المتروك في الشارع دون تكرير، في ذات الوقت، هي تركّز على الأشخاص وملامحهم في محاولة للحفاظ على ذكراهم وخبراتهم في المكان، وكأن كل مساحة نمرّ فيها تختزن صورة لنا وجزءا منّا، لتبدو “لوحاتها” كاستعادة لذكريات أولئك الذين مرّوا، وسعي لإظهار الأثر الخفيّ الذي تركوه وراءهم، وكأنها باحثة أحفوريّة تنقّب في طبقات الذاكرة والفضاء العام، موظفةً تقنيات الحفر النافر، جاعلةً من جدارياتها حيوية ومتحركة تحدق بالمارة وتسجّل ذكرى لحظة عابرة وعاطفيّة، والأهم أن سوون لا تكتفي بتلك اللحظات الواقعيّة، كعملها الذي نرى فيه أطفالاً يلعبون مع حَمامِ الشارع، إذ نرى أيضاً لحظات مُتخيّلة وحالمة، مثل لوحة “الشاب” الذي يتسلق حطاماً ليعلق ضوءاً فوق مبنى الإمباير ستايت.
المشروع الذي أطلق شهرة سوون هو أداء “المدن العائمة”، الذي قامت ضمنه مع مجموعة مؤلفة من 30 فناناً وفوضوياً، بالإبحار من سلوفينا بقوارب مصنعة من قمامة مدينة نيويورك باتجاه البندقيّة، لاقتحام بنيالي الفن المقام هناك في نسخة عام 2009، إلا أنهم أوقفوا عند الميناء ومنعوا من الدخول مع أعمالهم التي صنعوها على القوارب التي تحولت إلى سكن لهم أثناء احتجازهم.
نشاهد آثار عرض الأداء السابق في المعرض ضمن الأعمال التي تصوّر مشاهد من الحياة اليوميّة والأنشطة التي قام بها الفريق أثناء رحلته، والتي يتداخل فيها الورق مع الكرتون والصمغ والألوان، إلى جانب الأدوات المختلفة التي وظّفت أثناء الرحلة في عرض البحر، لتبدو صالة العرض حينها كمتحف للإنسان يحوي بقايا تجربة بشريّة حيّة، وما خلفته وراءها من آثار مختلفة بعضها لا يتجاوز استخدامه الوظيفي، كبرميل أو كرسي أو قطعة خشب.
أنشأت “سوون” عام 2010 منظمة “هيلو تروب” لإعادة إحياء هايتي معمارياً وفنياً بعد الزلزال الذي ضربها، ونتلمس نشاط المنظمة في الأعمال التي تصور سكان المنطقة، وتلتقط الانطباعات على وجوههم إثر ما شهدوه، إذ تتداخل صورهم مع الزخرفات المحليّة في تلك المنطقة، لنتلمس سحرا من نوع ما، خصوصاً أن سوون تعتمد الحجم الحقيقي للأشخاص، ما يزيد من تأثير ما نراه، ويحفزّ المخيلة على إكمال السياق الأصلي وتخيّل ما كان يحصل.
الإشكاليّ في معارض فنّ الشارع أنها في الكثير من الأحيان تعتمد على صور للأعمال المُنجزة، لا الأعمال نفسها، ما يُفقد مفهوم “فن الشارع” أهيمته، لنرى في بعض الأحيان أنفسنا أمام معرض صور، كما أن “الاحتواء” ضمن مساحة المعرض يهدد أسلوب تلقي الأعمال، كونها مصممة لتكون في المساحة العامة، لا ضمن جدران صالة معرض، حتى لو كانت هذه الصالة عائمة و الجدران شفافة.
تقول سوون في بيان المعرض إنها شهدت تغييراً في تعريف فن الشارع، فحين بدأت بممارسته كان يرتبط بالممارسات اللاقانونيّة ضمن الفضاء العام، كما كان تعبيراً عن التمرد، والاستفادة من مكونات المدينة في رغبة لتغيير حدودها، واحتلال المكان العام وإعادة امتلاكه، إلا أن الأمر تغيّر مؤخراً وأًصبح فن الشارع يدلّ على الجداريات الكبيرة التي يتم إنجازها بصورة قانونية ضمن ميزانيات كبيرة كجزء من سياسات تغيير “صورة” حيّ ما، وتضيف أن التقنيتين ما زالتا فعّالتين، لكن أسلوب انتقال الفنان من واحدة إلى أخرى ما زال غامضاً.